لعنة الجغرافيا تعيد "حرب الوديعة" إلى الواجهة: الرياض ترسم خطوطها الحمراء في رمال حضرموت المتحركة

مانشيت _ ​خاص – وحدة التقارير الاستراتيجية (ديسمبر 2025)

​في صحراء "العبر" المترامية الأطراف، حيث تلتقي رمال الربع الخالي بتضاريس حضرموت الوعرة، يعيد التاريخ تشكيل نفسه بصورة دراماتيكية. فبينما كانت المنطقة في نوفمبر 1969 مسرحاً لأول صدام عسكري مباشر بين المملكة العربية السعودية وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، تشهد اليوم في ديسمبر 2025 حشوداً عسكرية غير مسبوقة وإنذارات بضربات جوية، لكن هذه المرة بين "الحلفاء المفترضين".
​تشير التقارير الميدانية والاستخباراتية الواردة من الشريط الحدودي إلى أننا أمام "حرب وديعة ثانية"، لا تهدف فقط لتأمين مخفر حدودي، بل لرسم الخارطة النهائية للنفوذ في جنوب الجزيرة العربية، وسط انقسام فعلي لليمن إلى ثلاثة كيانات متصارعة.
​ليلة سقوط "الخطوط الحمراء"
​بدأت الأزمة الحالية تأخذ منعطفاً خطيراً في الثاني من ديسمبر 2025، حين شن المجلس الانتقالي الجنوبي (المدعوم إماراتياً) عملية عسكرية مباغتة أطلق عليها "مستقبل واعد". في تحرك وصفه المراقبون بـ "الانقلاب الجيوسياسي"، اجتاحت قوات الانتقالي وادي حضرموت، وسيطرت على مدينة "سيئون" الاستراتيجية ومقر المنطقة العسكرية الأولى، قبل أن تواصل زحفها شرقاً نحو محافظة المهرة الحدودية مع سلطنة عمان. 
​هذا التحرك لم يكن مجرد عملية عسكرية؛ بل كان، وفقاً لمحللين، تمزيقاً لاتفاق الرياض وتهديداً مباشراً للأمن القومي السعودي. للمرة الأولى، تجد الرياض نفسها محاصرة من الجنوب بقوة مسلحة لا تأتمر بأمرها، وتسيطر على "الخاصرة الرخوة" للمملكة، مهددة بعزل السعودية عن طموحها التاريخي في الوصول المباشر إلى بحر العرب. 

*​الإنذار الأخير: "الانسحاب أو القصف"*
​رداً على هذا التمدد، كشفت تقارير صحفية عالمية، منها "الجارديان"، أن الرياض وجهت إنذاراً شديد اللهجة للمجلس الانتقالي: "الانسحاب الفوري من حضرموت والمهرة، أو مواجهة ضربات جوية مباشرة". ولإضفاء المصداقية على تهديداتها، حشدت السعودية ما يقارب 20,000 مقاتل من قوات "درع الوطن" (الفصيل اليمني الذي شكلته ومولته الرياض كقوة موازية) في منطقتي الوديعة والعبر. 
​وبحسب مصادر عسكرية، فقد سحبت السعودية وحدات "درع الوطن" من مواقعها في عدن ولحج، وأعادت نشرها بشكل طارئ في "مثلث العبر" والوديعة، لتشكل "منطقة عازلة" (Buffer Zone) تمنع الانتقالي من إحكام قبضته على المنفذ الحدودي الوحيد الشغال بين البلدين. 
*​فلاش باك 1969: عندما غضب "الفيصل"*
​لفهم شراسة رد الفعل السعودي اليوم، يجب العودة بذاكرة الصحراء إلى خريف 1969. حينها، حاولت قوة من جيش اليمن الجنوبي (اللواء 30 مشاة) السيطرة على مركز الوديعة، مدفوعة بحماسة ثورية ودعم سوفيتي. كان الرد السعودي بقيادة الملك فيصل ووزير الدفاع الأمير سلطان بن عبدالعزيز حاسماً وساحقاً: حملة جوية مكثفة دمرت خطوط الإمداد الجنوبية، تلاها هجوم بري استعاد المنطقة في غضون عشرة أيام. 
​رسخت تلك الحرب "عقيدة الوديعة": الحدود الجنوبية خط أحمر، وحضرموت هي الامتداد الأمني للمملكة. واليوم، ورغم تغير الأيديولوجيات (من الشيوعية في 1969 إلى الانفصال في 2025)، يظل "الهاجس الجيوسياسي" ذاته. فالسعودية لا يمكنها القبول بوجود قوة مسيطرة على حدودها الجنوبية الشرقية تمتلك قراراً مستقلاً أو تدين بالولاء لقوة إقليمية منافسة (الإمارات)، خاصة في منطقة تختزن أكبر احتياطيات نفطية في اليمن.

*​"مثلث الذهب والدم": لماذا العبر والوديعة؟*
​تتجاوز أهمية المعركة الحالية البعد العسكري المباشر لتلامس عصب الاقتصاد اليمني والمصالح السعودية العليا:
​شريان الحياة الوحيد: يُعد منفذ الوديعة (والطريق الدولي المار بالعبر) "الرئة" التي يتنفس منها ملايين اليمنيين، حيث تمر عبره 70% من الواردات وحركة المسافرين. سيطرة أي طرف عليه تعني امتلاك ورقة ضغط هائلة وخنق الخصوم اقتصادياً. 
​حلم الأنبوب: تشير دراسات استراتيجية إلى أن السعودية تخطط منذ عقود لمد أنبوب نفط عبر حضرموت والمهرة إلى بحر العرب، لتجاوز مضيق هرمز وباب المندب. سيطرة المجلس الانتقالي على المهرة تضع "فيتو" فعلياً على هذا المشروع الاستراتيجي، وهو ما لن تسمح به الرياض.
​العزل الجغرافي: نجاح الانتقالي في السيطرة الكاملة على حضرموت والمهرة يعني حصار "الشرعية" المدعومة سعودياً في جيوب صغيرة، وتحويل الجنوب بالكامل إلى منطقة نفوذ إماراتي خالص، مما يخل بتوازنات القوة في التحالف. 

*​حرب الشرعية: "درع الوطن" في مواجهة "قوات الانتقالي "*
​بخلاف حرب 1969 التي كانت مواجهة مباشرة بين جيشين، تدار معركة 2025 عبر أدوات محلية متطورة:
​في المرمى السعودي: تقف قوات "درع الوطن" (Nation's Shield)، التي تتألف من مقاتلين سلفيين وقبليين يتلقون رواتبهم وتوجيهاتهم من الرياض. تم تجهيز هذه القوات بمدرعات حديثة ومدافع، ومهمتها الحالية هي الدفاع عن "منطقة العبر" ومنع سقوطها. كما حركت السعودية "حلف قبائل حضرموت"، الذي سيطر مسلحوه على حقول نفط "المسيلة" وقطعوا الطرق أمام تعزيزات الانتقالي، رافعين شعار "حضرموت للحضارم". 
​في المرمى الإماراتي: يقف المجلس الانتقالي وقواته الضاربة (ألوية دفاع شبوة والحزام الأمني، وألوية العمالقة الجنوبية)، مستفيدين من تسليح نوعي ودعم لوجستي، ومستندين إلى شرعية "فرض الأمر الواقع" لاستعادة دولة الجنوب.

*​السيناريوهات: هل تشتعل الحرب الشاملة؟*
​مع وصول الحشود العسكرية إلى ذروتها في منتصف ديسمبر 2025، يرى الخبراء أن المنطقة أمام ثلاثة مسارات:
​سيناريو 1969 المتجدد: أن تنفذ السعودية تهديدها بشن ضربات جوية دقيقة ("جراحية") ضد معسكرات الانتقالي المتقدمة، لفرض انسحاب قسري. هذا السيناريو محفوف بالمخاطر وقد ينهي التحالف العربي رسمياً. 
​التقسيم الواقعي (الكانتونات الثلاثة): تثبيت خطوط التماس الحالية، بحيث يسيطر الحوثي على الشمال، والانتقالي على الجنوب والساحل، بينما تحتفظ السعودية بمنطقة "عازلة" في الوادي والصحراء (العبر، الوديعة، شمال المهرة) لحماية حدودها وتأمين مصالحها النفطية.
​التسوية الهشة: انسحاب تكتيكي للانتقالي من المدن الرئيسية مقابل مكاسب سياسية، وتسليم الملف الأمني لقوات محلية محايدة، وهو الحل الذي تدفع به الوساطات حالياً لتجنب الانفجار. 

*​الخاتمة*
​بينما تغرب الشمس على رمال "الوديعة" وتنعكس أشعتها على فوهات مدافع "درع الوطن" ومدرعات "الانتقالي"، يبدو واضحاً أن حرب الوديعة لم تنتهِ فعلياً في 1969، بل كانت مجرد الجولة الأولى في صراع طويل على الجغرافيا والنفوذ. اليوم، تعيد الرياض رسم خطوطها الحمراء بالبارود والدبلوماسية الخشنة، موصلة رسالة مفادها: "قد تتغير الخرائط والتحالفات، لكن أمن الربع الخالي وعقدة الوصول لبحر العرب تظل ثوابت لا تقبل المساومة".


​إعداد: قسم التحليل السياسي
المصادر: الجارديان ، المونيتور ، تقارير معهد دراسات الحرب ، وثائق الأرشيف التاريخي لحرب 1969.