في ذكرى رحيله.. الشيخ البيحاني ..من ضحايا الفكر الإقصائي
ما من شعب من شعوب العالم إلا ويفخر بقادته
وعلماءه الذين ساهموا بنهضته وإنجازاته, بل ويجتهدون في عمل كل ما يُذكّرهم بهؤلاء
القادة والعلماء, لأنهم يكُنون لهم كل الحب والتقدير لكل جهد بذلوه في مصلحة هذه الشعوب.
من هؤلاء الشيخ العملاق الذي بلغ صيته الآفاق
الشيخ/ محمد بن سالم البيحاني رائد من رواد التغيير في اليمن, قدم من شبوة وسكن عدن
, فاحتضنته واحتضنها, وأحبته وأحبها, كعادتها العظيمة عدن, تُعطي على مرّ الزمن, دون
شرطٍ أو مَنّ, حتى صار الشيخ رمزاً لها وعلماً من أعلامها. هذا الشيخ البصير لعب دوراً
بارزاً هو وغيره من علماء عدن ومثقفيها في الذوذ والحفاظ على الهوية الإسلامية ونشر
الوعي والقيم الفاضلة ومحاربة الاستعمار والأفكار المنحرفة في جنوب اليمن من خلال كتبه
وخطبه ومحاضراته وأشعاره ومن خلال أزهر اليمن في تلك الفترة كما سماه الشيخ وهو المعهد
العلمي الإسلامي الذي أسسه الشيخ في صيرة عدن.
بعد هذا الجهد العظيم وبدلاً من أن يُكرّم
هذا الشيخ بعد استقلال اليمن الجنوبي , تمّ مصادرة معهده العلمي الإسلامي وتأميمه بقرار
ظالم بتاريخ 16/5/1971م صادر من وزير التربية والتعليم آنذاك في الحكومة الماركسية
وتم إقصاء الشيخ ومضايقته لما عرفوا عنه من صدعه بالحق ومحبة الناس له حتى لا يرتفع
صوته فوق صوتهم وصوت حزبهم (لا صوت يعلو فوق صوت الحزب).
وتم تحويل المعهد فيما بعد إلى وزارة الداخلية,
فبعد أن كان مصدراً للوعي وإشعاع للقلوب والعقول, صار مصدر إرهاب وتهديد وحبس للعقول.
هذه النفسية الإقصائية ونفسية الحزب الواحد
والقائد الأوحد إذا حضرت فإنها تجلب لأصحابها ولشعوبهم الويلات, هذه هي النفسية الفرعونية
كما اخبر الله عنها {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (سورة غافر آية 29)
نعم تم إقصاء الشيخ البيحاني ومعهده من
صناعة الحياة وتحت مسمى جميل وبرّاق ( سبيل الرشاد الفرعوني) أو محاربة الرجعية أو
الخطوة التصحيحية.
فهتف الشيخ قائلاً:
ما حيلةُ العلماء في الجهـال
إن غلب الهوى وتحكم الجهال
وإذا أدار من الأمور صغارها
وكبارها الأوغاد والأنـذال
فالموت حلو والحياة مريرة
والغي رشد والرشاد ضلال
فلتهتف الدنيا ويهتف أهلها
عاش الجهل وعالم دجــال.
يقول صاحب كتاب الإستقلال الضائع عبده حسين
أدهل: (( هذه هي ديمقراطية الحزب الواحد لا يسأل عما يرتكبه من جرائم ولا من أعمال
تخريبية فهو لا يقبل النقد ولا المعارضة ولا الاقتراح بتصحيح الأوضاع أنه يقضي على
المواطن المعارض خارج الحزب ويخنق همسات الرفض التي تسمع داخل الحزب ولو من الأعضاء
المؤسسين الأوائل للحزب))
والشيخ البيحاني رحمه الله تعالى كان مثالاً
على الانفتاح على الكل ولم يكن يُقصي أحداً , حتى في عمل تبناه هو شخصياً مثل المعهد
العلمي الإسلامي فلقد ذكر فضل النقيب في صحيفة الأيام (العدد 4658) متحدثاً عن الشيخ
البيحاني أنه كان محل إجماع الكل وقبل مدرسين في المعهد ذات اتجاهات مختلفة قوميون
وبعثيون وصوفيون وإخوان مسلمون.
لم يقتصر الأمر على تأميم وإغلاق المعهد
بل كما يقول الشيخ أمين سعيد باوزير ( وهو أحد تلامذة البيحاني): " لقد أودي الشيخ
البيحاني بعد تأميم المعهد أشد, سبوه علناً وكذا بالتلفونات المستمرة, وكانوا يراقبون
كل حركاته وسكناته ويتعمدون مضايقته ما أمكن لهم ذلك".
وأمام هذا الإرهاب والإقصاء والمضايقة أجبر
الشيخ الجليل المرحوم محمد سالم البيحاني أمام العدوان السافر للسلطة على مظاهر الدين
الإسلامي ورموزه على النزوح إلى مدينة تعز في أوائل السبعينات حيث توفاه الله ودفن
في موكب مهيب شارك فيه كل أهالي محافظة تعز.
قال الشيخ البيحاني في رباعياته:
لا يخرج الناس من أوطانهم عبثاً
ولا يسيرون من أرضٍ بها خلقـوا
إلا إذا ضاقت الأرزاق عنـدهـم
فإن أوطانهم من حيث ما رزقوا
والحُرُّ لا يستطيع الضيم يحمله
من قومه فيراضيهم إذا حنقوا
والناس ليسوا سواء في طبائعهم
وإن يوحدهم الإسلام يفترقــوا.
تلك الفترة العصيبة من حياة عدن والجنوب
اليمني من أشدّ فترات الإقصاء فقد أقدمت الحكومة على تشريد الأسر والعائلات العدنية
وطردهم من منازلهم في منتصف الليالي المظلمة والاعتداء على حرمات المنازل.
وهاجر من الجنوب المستضعفون في الأرض من
لم يستطع تحمل سيطرة الحزب الواحد من الكوادر الوطنية المثقفة بعد أن رأى بأن المصلحة
الشخصية والطموح العشائري والقبلي يصبحان الوسيلة الوحيدة للمحافظة على المناصب.
ورغم كل ما تعرض له الشيخ البيحاني كان
رحمه الله على يقين بأن ليل الظلم الحالك زائل لا محالة فقد كان يقول:
وأمرك نافذاً يا ذا الجلال
وشأن الحق أن يبقى طويلاً
وأمـا الشـر فهو إلى زوال
نعم أيها الشيخ الجليل بَقِيَ الحق وبقيت
أنت نور مشعٌ في حياتنا , وزال الشر الذي أقصاك , وسيزول اليوم وغداً كل من يسلك الإقصاء
منهجاً وطريقاً.
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ).