إيران... الرجل المريض
الرجل المريض هو لقبٌ أُطلِق بعد الحرب العالمية الأولى على الخلافة العثمانية واسعة المساحة وضخمة التمدُّد، ولكن ضعيفة الاستقرار وواهنة التماسك في الوقت ذاته، ولم ينقذ هذا الرجل المريض من الفناء الكامل، إلا اختيار مصطفى كمال أتاتورك التخلي عن هذه الخلافة، والاتجاه نحو تأسيس الدولة التركية الوطنية الحديثة.
وكما هو معتادٌ في التاريخ، دائماً ما يخرج من رحم النجاة والنجاح مَن يفتش في الماضي - وإن كان مهزوماً - عن حلمٍ يبنيه ومشروعٍ يتبناه ووسيلة لتعزيز السلطة في الواقع، وإن بالأوهام، ومن هنا يمكن رصد الخيالات المرَضية التي تسعى لإحياء الرجل المريض الذي مات أو الخلافة العثمانية، وهذا مشروع تركيا وجماعة الإخوان المسلمين وقطر، حيث يقدمون جميعاً مشروعاً يسعى لإعادة الماضي وتبنيه ونشره وجعله - ويا للمفارقة - مشروعاً للمستقبل.
خرجت تركيا من الحرب العالمية الأولى منهكةً ومشتتةً وغير قادرةٍ على السيطرة، فالحروب تنهك الدول حين تكون غير محسوبة وغير مخططٍ لها بالشكل الصحيح، وكذلك تفعل العقوبات الدولية المعاصرة، فهي تنهك الدول وتضعفها وتؤثر بشكل كبير على حيويتها، ومن ثمّ قدرتها على الصمود، وإيران اليوم ترزح تحت عقوباتٍ قاسيةٍ وموجعةٍ باعتراف المرشد خامنئي نفسه، وتتجه لتصبح الرجل المريض في هذا الزمن بهذه المنطقة.
ماتت الخلافة العثمانية الطاغية المتجبّرة في نهاية الحرب العالمية الأولى، وأُعلِن عن وفاتها في عام 1924، ولكنَّ النظام الإيراني لم يمت بعد، غير أن علامات المرض بدأت تظهر عليه أكثر من ذي قبل، فبعد أربعين عاماً من التجبّر والأصولية والإجرام باسم الله وباسم الدين وباسم الطائفية، وبعد التفاخر باحتلال أربع عواصم عربية، هي بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، ها هو النظام يواجه تحدياتٍ كبرى داخلياً وخارجياً، ويتجه لاستراتيجية جديدةٍ تعتمد على الصمود، وليس على التوسع.
التاريخ لا يعيد نفسه، وليس المقصود من هذا السياق تطابق الأمثلة، فهذا متعذّرٌ، ولكن المقصود هو استحضار أمثلة قريبةٍ في التاريخ تمنح القدرة على المقارنة بين مقدمات الأحداث التي تصنع التاريخ قبل الاستدلال بنهايتها، وهو ما يلفت النظر إلى أن ما يجري قبل الأحداث الكبار في التاريخ أهم من الأحداث نفسها، لأنه مطبخها وبيئتها التي أنضجتها، وأعدتها لتصبح بتلك المكانة التاريخية.
إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الرغم من بعض القرارات المربكة - مثل الانسحاب من سوريا - توضح أنها واعيةٌ بشكل حقيقي لخطر النظام الإيراني، وما زيارة وزير خارجيته مايك بومبيو للمنطقة التي تمّت الأسبوع الماضي إلا دليلٌ مهمٌ على أنها مستمرةٌ في خنق هذا النظام الإيراني السيئ والخطير، وأنها لن تسمح له بالتفرّد ببعض الدول العربية التي يمتلك فيها نفوذاً كبيراً، لأنه نفوذٌ ينبغي عدم الإقرار به أو التسليم له، كما هو الأمر في العواصم العربية الأربع المذكورة أعلاه.
الاتحاد الأوروبي الذي يصرّ على ممانعة إلغاء الاتفاق النووي مع إيران بدأ في التضعضع أمام سياسات إيران الإرهابية والطائفية تجاه أوروبا نفسها، قبل أن تكون مقتصرةً على دول المنطقة، وبدأ في السعي مرغماً على التعامل مع خطط النظام الإيراني في بعض دوله، من عمليات اغتيال ومحاولات تصفية وتخطيط لإرهاب، نجح بعضها وتم الكشف عن بعضها الآخر قبل أن تقع، ولكنه على كل حالٍ اتخذ مواقف غير معهودةٍ له سابقاً.
الوضع الداخلي الإيراني محكومٌ بالحديد والنار، وقد زاد النظام الإيراني من قدرته على مواجهة الشعب الإيراني بعد ما جرى إبان الثورة الخضراء قبل عقد من الزمان، ولكن السؤال هو عن قدرة النظام في ظل العقوبات المتزايدة على الصمود؟ وإلى أي مدى يستطيع تجاوز كل التحديات المحيطة به، وهو يعادي كل محيطه من الدول المجاورة له؟
العقوبات الدولية ليست لعبةً، وهي حين تُفرض من أقوى دولةٍ في العالم، وبتحالفاتٍ واسعةٍ، فستدفع بالنظام الإيراني لا لمراعاة التوسع وبسط النفوذ وفرض الهيمنة، بل لمحاولة الانكفاء والدفاع والتصدي والسعي للتماسك داخلياً، مع الحرص على اعتبار أن هذا يستوجب الدفاع المستميت عن الأذرع الخارجية، وإثبات قوتها وتماسكها قبل التخلي عنها في النهاية مضطراً، وهو ما يجري في سوريا وفي اليمن.
يمكن أخذ ما يجري في اليمن كمثالٍ؛ فميليشيا الحوثي لم تلتزم باتفاق استوكهولم، وقد أثبت التحالف العربي، بقيادة السعودية، خروقاتٍ متعددةً لهذا الاتفاق، وعملية الهجوم بطائرة «درون» إيرانية الصنع على قاعدة العند العسكرية قبل أيام معدودةٍ، وتصريحات الأمير خالد بن سلمان السفير السعودي في واشنطن، التي تؤكد اتباع الحوثي لسياسة تجويع الشعب اليمني، خير شاهدٍ على أن هذه الميليشيات لا تعترف بالاتفاقات الدولية، وأنها تأتمر بشكل مباشرٍ بأوامر النظام الإيراني، حتى فيما يضرّ بها، فهذا فعل اليائس الذي يخسر مكاسبه بسبب سياسات سيّده، وهذا دليل على مرض السيّد واتجاهه لسياساتٍ خاسرةٍ.
فضح ميليشيا الحوثي والتضحية بها دولياً دليل ضعفٍ إيراني، ومن ذلك تصريح المبعوث الأممي لليمن مارتن غريفيث الداعي للتهدئة من جميع الأطراف، لأنه لا يريد قطع العلاقات بشكل كامل مع الحوثيين، كما فعل كل المبعوثين الأمميين من قبله، فهذه وظيفته التي سيخسرها بمجرد وضع يده على الجرح مباشرةً، ولكن تطورات الأحداث قد تتجه لإعادة الضغط العسكري الناجع ضد الحوثي، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الميليشيا لا تفهم إلا لغة القوة.
الإدارة الأميركية مصرّةٌ على مواجهة النظام الإيراني، وليس تدليله، كما صرّح بومبيو، ولن تشارك في أي إعادة إعمار لسوريا، ما لم تخرج كل الميليشيات الإيرانية من سوريا، كما جاء في بقية التصريح، وهي رسالة واضحة لإيران وإشارة لروسيا في الوقت نفسه، وحلفاء أميركا من الدول العربية لديهم التوجه نفسه والسياسة ذاتها.
أخيراً، فقد صدقت العرب قديماً في قولها: «ما حكّ جلدك مثل ظفرك»، وصدقت العرب حديثاً بوعيها أن المعركة مع النظام الإيراني هي مواجهة مفتوحة لا تقبل أنصاف الحلول، والواقع يقول: إن ميليشيا الحوثي لا تفهم إلا لغة القوة لا اللغة الدولية السياسية والقانونية، وهو ما سيحدث حين يتجاوز الحوثي الحدود ويعتمد التصعيد.