بين نعومة الخطاب وصلابة المصالح.. قراءة في الموقف السعودي إبان الحرب الإسرائيلية الإيرانية

حين تتكاثف الغيوم فوق سماء الشرق الأوسط، ويعلو دخان الحرب بين إيران وإسرائيل، تقف العواصم الإقليمية على أطراف أصابعها، تراقب، وتقدّر، وتُجيد فن الصمت حين يكون الكلام عبئًا.
وفي الحرب التي اندلعت بين تل أبيب وطهران، ودامت اثني عشر يومًا من التوتر والصواريخ والمناورات، لاحت من الرياض لغة مختلفة. لم تكن لغة المحاور، ولا بيانًا ناريًا يتماشى مع صوت المعركة. بل ظهرت المملكة العربية السعودية بخطاب هادئ، موزون، لا يستفز، ولا يُستفَز، يتكئ على القانون الدولي، ويراعي ضرورات الجغرافيا السياسية.
فما سر هذا الخطاب السعودي الناعم؟
وهل يعكس تغيرًا جوهريًا في السياسة السعودية تجاه إيران؟
أم أنه انعكاس لتكتيك حذر، يمزج بين حماية المصالح وتفادي التصعيد؟
أولًا: ملامح الخطاب السعودي خلال الحرب
منذ اللحظات الأولى لانطلاق الضربات الإسرائيلية على العمق الإيراني، ثم انخراط واشنطن في استهداف منشآت نووية داخل إيران، تبنت السعودية خطابًا اتسم بالاتزان، والدعوة لضبط النفس، ورفض التصعيد.
وجاء في بيان رسمي أن المملكة "تدين أي عمل عدواني من شأنه تهديد أمن الدول واستقرار شعوبها"، دون تسمية مباشرة لأي طرف.
هذه الصياغة الرمادية – بلغة القانون الدولي – لم تكن اعتباطية، بل تعبير عن سياسة محسوبة تقيس الكلمات كما تُقاس خطوات الجيوش في زمن الحرب.
وفي تطور لافت، لم تكتف الرياض بإدانة الضربات الإسرائيلية، بل أدانت أيضًا الضربات الأمريكية، وهو موقف لم يكن معتادًا في الخطاب الخليجي، ويكشف عن اتساع هامش السيادة في قرار الرياض، حتى تجاه الحليف التاريخي.
ثانيًا: الشكر الإيراني... وقراءته الاستراتيجية
كان لافتًا أن تخرج الخارجية الإيرانية بتصريح رسمي تشكر فيه المملكة العربية السعودية على "موقفها المتزن"، وتثمّن إدانتها للهجوم الإسرائيلي والضربات الأمريكية.
قد يُقرأ هذا الشكر باعتباره محاولة لتثبيت مسار التقارب الذي رعته الصين بين البلدين، كما يمكن اعتباره جزءًا من مسعى إيراني أوسع لتفكيك جبهة التحالفات الأمريكية في المنطقة.
لكن ما ينبغي التنبه له هو أن الشكر الإيراني لا يعني تحالفًا، بل هو اعتراف بحذر سعودي نجح في تجنيب المملكة الانجرار إلى مربع الصدام.
ثالثًا: هل كانت الرياض تتفادى أن تكون هدفًا؟
وهنا نصل إلى تساؤل جوهري في فهم الخطاب السعودي خلال الحرب:
هل كانت المملكة تخشى أن تتحول إلى هدف بديل لغضب إيران؟
في منطق الصراعات غير المتكافئة، حيث تعجز دولة كإيران عن الرد النوعي والمؤثر على إسرائيل أو الولايات المتحدة، قد تلجأ إلى تفريغ غضبها في خاصرة الحلفاء، والمملكة – بحكم تحالفها التاريخي مع واشنطن ومكانتها القيادية – تبرز كأكثر الأهداف رمزية.
هذا السيناريو، وإن لم يتحقق، إلا أنه ظل حاضرًا في حسابات الرياض، وهو ما يفسر حرصها على تفادي أي خطاب استفزازي قد يُقرأ في طهران كتبرير للرد.
لقد فهمت الرياض أن الكلمة قد تُطلق صاروخًا، وأن النغمة العالية قد تكون أخطر من الموقف نفسه.
لذا اختارت أن تُخاطب الأزمة بلغة هادئة، تحفظ للبلاد أمنها، وللدبلوماسية هيبتها، وللعقل السياسي مساحته.
رابعًا: بين توازنات السياسة ومرونة الخطاب
تاريخ السياسة السعودية مع إيران لم يكن يومًا قائمًا على العداء المطلق، بل على إدارة التناقضات.
وما بعد الاتفاق الذي رعته بكين بين الجانبين، أصبحت الرياض ترى أن التهدئة مع طهران تخدم استراتيجيتها الكبرى في الاستقرار والنمو الاقتصادي، الذي يُشكّل عماد رؤية 2030.
كما أن السعودية في موقعها الجديد، لا ترغب أن تكون مجرد جزء في محور، بل تسعى لتكون ركيزة توازن في الشرق الأوسط، تُعيد صياغة العلاقات على قاعدة "الندية السيادية"، لا "التبعية الأمنية".
ومن هذا المنطلق، لم يكن الخطاب الناعم خضوعًا، بل أسلوبًا دبلوماسيًا لإدارة مرحلة بالغة الحساسية، تُحكمها التوازنات لا العواطف، والمصالح لا الشعارات.
خامسًا: الصين كلاعب صامت في خلفية المشهد
لا يمكن إغفال أثر الوساطة الصينية في خلق مناخ جديد من التعاطي السعودي–الإيراني.
فبكين، التي نجحت في جمع الغريمين على طاولة التفاهم، كانت تدفع في اتجاه تهدئة طويلة الأمد، تساعد على استقرار أسواق الطاقة، ومنع التصعيد الإقليمي.
وقد استثمرت السعودية هذا المسار، فجعلت من نفسها صوت الاعتدال، وأحسنت استخدام أدواتها السياسية والرمزية لتثبيت موقعها كقوة توازن لا كطرف اشتباك.
سادسًا: الخلاصة – بين الحكمة والردع الناعم
لقد قدمت المملكة العربية السعودية خلال الحرب نموذجًا لسياسة عقلانية، تمسك العصا من وسطها، وتخاطب النار بالماء، لا بالوقود.
قد يظن البعض أن نعومة الخطاب ضعف، لكنها في الواقع كانت درعًا ناعمًا يقي من ضربة مباغتة، ويمنع اشتعال فتيل لا ناقة فيه للمملكة ولا جمل.
وفي زمن تتسابق فيه الدول على تسجيل المواقف في الإعلام، فضّلت الرياض تسجيل موقفها في دفتر المصالح الوطنية، بعيدًا عن الضوضاء، وقريبًا من مصلحة البلاد.
كلمة ختامية: السياسة ليست من يصرخ أولًا، بل من يربح أخيرًا
السياسة – كما تُمارسها الرياض اليوم – هي فن إدارة التناقضات، وموازنة الخطر بالحكمة، والحفاظ على الدور دون خسارة الأمن.
وإن كانت الحرب قد كشفت عن هشاشة بعض التحالفات، فإنها – في المقابل – أبرزت نضج الموقف السعودي، الذي اختار الكلمة على الصاروخ، والصمت على الصدام، والمصلحة على المجازفة.
فمن لا يحسن قراءة الخطر، قد يثيره دون أن يدري.
ومن يُجيد قراءة اللحظة، يصنع من صمته جدارًا، ومن بيانه الهادئ درعًا، ومن التوازن طريقًا للنصر الآمن.
،،،،