الوزير السابق صالح الجبواني يكتب: سيكولوجية العنف في المجلس الانتقالي.. حين تخلع عُقد النقص قناعها في بهو السلطة

تتجلّى مظاهر العنف الممنهج داخل المجلس الانتقالي، ليس كحالة سياسية عابرة، بل كتركيبة نفسية ـ سلطوية تشكّلت في سياقات تاريخية واجتماعية مضطربة. فعقب هزيمة 1994، وما تبعها من تفكك المؤسسة العسكرية التابعة للحزب الاشتراكي، تولّدت لدى كثير من عناصر ذلك التكوين إحساس عميق بالخذلان والإحباط الشديد، تطوّر تدريجيًا إلى شعور بالعجز واليأس، ثم تحول إلى سلوك عدواني اتخذ طابع التمرّد والانفلات، وغلب عليه طابع البلطجة.

ومع بروز المجلس الانتقالي كذراع مناطقي مدعوم من الخارج، وجدت هذه الفئة نفسها فجأة في مواقع تأثير، دون مؤهلات سياسية أو مشروع وطني حقيقي، فقط شعارات فارغة لدغدغة عواطف الناس، مدفوعة برغبة جامحة في التعويض عن الماضي، لا بالعدالة أو الإصلاح، بل عبر النهب والاستحواذ والانقضاض على كل ما يمكن السيطرة عليه — حتى لو تطلّب الأمر الخطف، والقتل، والإخفاء. وقد تجلّى في سلوكها حقد مناطقي دفين، يرتكز على إرث دموي لم يُصفَّ، يبدأ من صراعات 1967 ولا ينتهي بمجازر الثالث عشر من يناير 1986؛ حيث رسّخت تلك الحروب الداخلية ثقافة التصفية والبطش والتخوين داخل محيطها الضيق، وهي الثقافة ذاتها التي يعاد إنتاجها اليوم، ولكن في صورة سلطة مغلّفة بشعارات تدّعي وصلآ بالجنوب والجنوب منها براء.

وتُعد السطحية التعليمية وضآلة الكفاءة من أبرز العوامل التي تُفسّر هذا السلوك المشوَّه، إذ إن غالبية قيادات الانتقالي لا تمتلك أي تأهيل معرفي أو إداري، بل خرجت من بيئات مغلقة ومحدودة، لم تختبر معنى الدولة أو المسؤولية أو القانون. هذا الافتقار للحد الأدنى من الفهم السياسي والإداري جعل من وجودهم في موقع القرار خطرًا على النسيج العام، حيث يتحوّل الجهل إلى غطرسة، والسلطة إلى وسيلة للنهب والتسلط. ومن ثمّ، فإن مظاهر العنف ليست إلا تعبيرًا صارخًا عن جهلٍ معقّد، يرى في البطش وسيلة للتثبيت، وفي إسكات الآخر “شجاعة”.

السلاح والدعم الإقليمي، خصوصًا من دولة الإمارات، منح هذه المجموعة وهْمَ القوة المطلقة، وسرعان ما تحوّل هذا الوهم إلى ذهنية قمعية تسعى لسحق الآخر بوصفه خطرًا وجوديًا. فالحاضن الاجتماعي والسياسي الذي جاء منه معظم قادة المجلس الانتقالي يتكوّن من خلفيات بسيطة: مقاتلون تقليديون، أشخاص بلا خبرات إدارية أو رؤية للدولة، بل محكومون بثقافة الغلبة والمركزية المناطقية. لذلك تحوّلت مناصب القيادة لديهم إلى مساحة لإشباع عُقد النقص القديمة، عبر الاستعراض والتهميش والإقصاء.

الظاهرة الأخطر في هذا السلوك ليست العنف في حد ذاته، بل استبطان الحقد على كل ما لا ينتمي إلى دائرتهم الضيقة، خصوصًا ما يمثل فكرة “الجنوب” بوصفه كيانًا تعدديًا، أو إرثًا سياسيًا جامعًا. فالحقد هنا ليس موجّهًا ضد “خصوم سياسيين”، بل ضد كل ما يذكّرهم بأنهم طارئون على معادلة الدولة والفكرة الوطنية. لذا، يستميتون في صناعة واقع جديد بالقوة، لردم شعورهم العميق بعدم الجدارة واللاشرعية.

وفي النهاية، لن يكون بالإمكان كسر هذه البنية النفسية ـ السياسية الشاذة إلا بإعادة ضبط البوصلة الوطنية على أساس العدالة والشراكة، وفضح هذا المشروع الصغير بوصفه امتدادًا لماضٍ مهزوم، لا نواة لمستقبل مأمول.