حنكة الرئيس وحكمة الانتقالي

لقد احتاجت قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي مساء أمس لعشر ساعات من المداولات عبر تقنية الفيديو كونفرس لإخراج تصريح مقتضب تأييدا لقرار رئيس الجمهورية بشأن إعادة تشكيل قيادة البنك المركزي اليمني.

التصريح -التغريدة- بارك قرار رئيس الجمهورية الذي كان (نتيجة لتوافق مع المجلس الانتقالي) قبل إصداره؟ لكن قيادة المجلس في اجتماع رسمي قبيل اعلان القرار الرئاسي بساعتين أطلقت تهديدات للحكومة الشرعية -التي هم جزء منها- بضرورة اعلان الطرف المعرقل لاتفاق الرياض وفضح الطرف المعوق لعمل الحكومة في عدن، و(طالب)بيان رئاسية الانتقالي رئيس الجمهورية الالتزام بالتوافق مع المجلس حول كل القرارات التي يتخذها بعد اتفاق الرياض؟!

كل المؤشرات تقول إن الرئيس قد أصدر القرار بل القرارات الثلاثة -إعادة تشكيل مجلس البنك وتعيين نائبا لوزير المالية وتكليف الجهاز المركزي للمحاسبة بتقييم عمل البنك- دون الرجوع لأي طرف سياسي بما في ذلك قيادة المجلس الانتقالي التي عارضت كل القرارات الرئاسية السابقة وآخرها قرار تعيين مدير تنفيذي لشركة النفط اليمنية. كيف جرى ذلك؟

أولا: كما أشرنا سابقا فإنه لو صدر القرار بتشاور او توافق مع قيادة المجلس كما يدعي، لما تأخر تأييد القرار كل هذه المدة، او لما احتاج لبيان تأييد من المجلس على الأقل، وكان سكوت المجلس أولى من تصريحه- وهذا السكوت كان رأي اغلب قيادة المجلس خلال المداولات التي استغرقت كل ساعات ليلة أمس- لكن المجلس اضطر لتأييد القرار نظرا (للخضة) التي أحدثها القرار في سعر الريال والقبول الشعبي الكبير للقرار ففضل المجلس عدم المواجهة او تأجيلها.

والسؤال لماذا لم يبارك المجلس قرار الرئيس بتقييم عمل البنك خلال المرحلة السابقة ومحاسبة المتسببين في تدهور سعر العملة؟ بحسب ذلك القرار أحد المطالب السياسية والشعبية التي يلوكها المجلس في كل مناسبة.

لماذا سكت عن تعيين نائب لوزير المالية من صنعاء، بينما اعترض -قبل أسابيع- على تعيين مديرا لشركة النفط من أبناء شبوه. كل ذلك يوحي بصدمة الانتقالي وليس توافقه المزعوم مع تلك القرارات.

ثانيا: نعلم جميعا ان القرارات الرئاسية تصدر صباحا وتعلن ضمن نشرة التاسعة عادة وقد سبق ان تسربت بعض القرارات -خاصة التي تتم فيها مشاورة الأطراف السياسية- قبيل إعلانها بساعات كما هو قرار تشكيل الحكومة. او تعيين السفراء لما يتطلبه ذلك القرار من تشاور خارج دائرة مكتب الرئيس. فلو انه حصل أي تشاور مع المجلس حول الأسماء مثلا فمؤكد ان ذلك سيكون قد شمل أطراف سياسية أخرى مشاركة في الحكومة وهذا يؤدي عادة لتسريبات أسماء قبل اعلان القرار رسميا. وبيان رئاسة المجلس قبيل اعلان القرار -وبعد صدوره فعلا- بساعات يرجح عدم معرفته بمضمون القرار أصلا. علاوة على ان أي تداول او ترشيح في هكذا مناصب سيادية وتخصصية حساسة يسبق القرار بأسابيع ان لم يكن شهورا. وليس ساعات.

ثالثا: ان المجلس الانتقالي لديه لجنة اقتصادية معلنة من (27) شخصا ضمت (خيرة رجال المصرفية المالية والاقتصاد) بزعم الانتقالي، ولو انه تم التوافق فعلا مع الرئيس بشأن تشكيل مجلس البنك لدفع المجلس بعضا من هؤلاء، ومن غير المعقول ان المجلس لم يجد في كل هؤلاء الخبراء ال(27) -من العقول الاقتصادية للدولة الجنوبية القادمة – مؤهلا لعضوية مجلس البنك.

رابعا: ان هناك سخطا شعبيا على المجلس من سياساته السابقة التي تؤدي في النهاية للتفريط بمناصب الدولة من ايدي أبناء الجنوب لمصلحة (الشماليين المحتلين) كما حصل مع منصب رئيس الوزراء مرتين ومنصب رئيس البرلمان ورفض تعيين الجنوبي بن دغر في قيادة مجلس الشورى وتمسكه بعلي الاعوش نائبا عاما.

وحفاوته بقيادة مجلس المقاومة الوطنية-طارق عفاش- في عدن ورفض وجود الحماية الرئاسية الجنوبية. وبالتالي هذه المعطيات تجعل المجلس الانتقالي-سياسيا- يتمسك بمنصب محافظ البنك المركزي جنوبيا في أي مشاورات او توافقات لو انها قد تمت أي مشاورات مع الرئيس كما يدعي ناطق المجلس في مباركته للقرار صباح اليوم. خاصة وان محافظ البنك ونائبه -المقالين- من أبناء عدن الذي يحاول الانتقالي ان يظهر انصاف أبنائها. وتمكينهم في مفاصل الدولة.

بعيدا عن كواليس قرار تغيير قيادة البنك المركزي اليمني، فان قرارات ليلة امس اثبتت ان رئيس الجمهورية لايزال يملك قرار الإصلاح ومحاربة الفساد، ورصد ردود الأفعال الشعبية المرحبة بالقرار والتفاؤل الذي انعكس على السوق يعطي مؤشر للقيادة السياسية للبلد وبشكل خاص رئيس الجمهورية ان المشروعية السياسية تستمد من رضاء الشعب عن قرارات الحكومة، ونجاح أي قرار يكون بقدر ملامسته لهموم الناس واتصاله بمعيشتهم وحياتهم اليومية، وكلما كانت تلك القرارات قريبة من تطلعات الناس واحتياجاتهم كانت فرص نجاحها اكبر، وكان تنفيذها اسهل خاصة اذا اقترنت بعزم اكيد على مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين او إقالتهم على الأقل.

ان القرارات التي تفرزها صفقات المحاصصة السياسية او المراضاة الاجتماعية، لا تحقق المرجو منها ولا تحظى بمشروعية سياسية على المدى البعيد والقصير حتى، والشواهد شاخصة امامنا من خلال عشرات الفاسدين الذين ضحوا بمصالح شعبهم لمصالح شخصية او اجندة خارجية، وكانت مؤسسة قيادة الدولة -الرئيس ونائبه ورئيس حكومته- هم مطية هذه العناصر في الوصول لمناصب الدولة ومركز القرار.

اما بالنسبة للمجلس الانتقالي الجنوبي فقد اثبت -بمباركته لأول قرار جمهوري- برجماتية عالية ومسئولية وطنية في دعم خيارات الإصلاح السياسي والاقتصادي التي كانت أحد مرتكزات اتفاق الرياض في تعزيز سلطات مؤسسات الدولة -ومركز رئيس الجمهورية في القلب منها- ودعم المشروع السياسي الوطني في مواجهة الانقلاب الحوثي. وهذه -البرجماتية- مؤشر مهم على تشكل حزب سياسي في جنوب الوطن يتعاطى مع الاحداث بواقعية بعيدا عن الشعارات، او التمترس خلف مقولات تخوين الاخر، بل الانتقال لمرحلة التعاون المثمر مع المختلف سياسيا، والقدرة على تمثل مصالح الشعب بحسب المعطيات في الواقع كما ترسمها تطلعات الشعب واحتياجاته المعيشية، وبهذه القرار يقفز الانتقالي قفزة كبيرة بعيدا عن الشعبوية الى موقع المسئولية كشريك رئيسي في حكومة الشرعية التي ترعى مصالح كل الشعب اليمني وليس الجنوب فحسب.

مقالات الكاتب