مأرب .. الهدف البعيد في مرمى التخريب القريب
في لحظة فارقة من مسار الصراع اليمني، وفي الوقت الذي تتكثف فيه الجهود السياسية والعسكرية لإعادة ضبط البوصلة الوطنية نحو مركزية المعركة مع جماعة الحوثي، تتحرك الأخيرة على نحو متخفي، غير مباشر، باتجاه خاصرة الجمهورية في مأرب، لا عبر الجبهة المفتوحة، بل من خلال الأبواب الخلفية التي تتوسل التخريب وتستدعي أدوات التسلل الناعم عبر السخط القبلي والتمرد المحلي.
أولاً: خلفية الحدث وتوقيت الرسائل
التحركات الأخيرة التي قادها المدعو عبدالله بن سعيد بن جلال في مديرية الوادي بمأرب – تحت غطاء قبلي، وبسلاح يعتدي على الكهرباء والطرقات لا على العدو الحقيقي – جاءت في توقيت بالغ الرمزية والخطورة:
سياسيًا: تزامنت مع حراك داخلي متسارع في بنية الدولة، عقب تعيين رئيس جديد للحكومة وعودة للحكومة إلى العاصمة المؤقتة عدن، ما يعني بداية انتقال من "إدارة التعايش" مع الوضع الراهن إلى "إدارة المواجهة" مع جذور الانقلاب الحوثي.
عسكريًا: جاءت في ظل إعادة ترتيب أوراق المؤسسة العسكرية، واستئناف الجاهزية الميدانية في مناطق التماس، ضمن استراتيجية محتملة للحسم التدريجي بعد إخفاق مسارات التهدئة والمفاوضات في تحقيق أي اختراق حقيقي في جدار الأزمة.
استراتيجيًا: يبدو واضحًا أن الحوثي يسعى عبر هذا التحرك إلى إرباك مشروع الدولة قبل أن يكتمل، وخلط أوراقها السياسية والعسكرية قبل أن تتبلور رؤية وطنية جامعة للمواجهة. وما مأرب إلا الحلقة الأهم التي يريدها الحوثي أن تتكسر، كي يسقط الحلم الوطني معها.
ثانيًا: الأهداف المضمَرة.. حين يُستخدم التمرد كغطاء استراتيجي
الحدث – وإن بدا في ظاهره حالة تمرّد قبلي – إلا أن قراءة مساراته ودوافعه تكشف أنه جزء من تكتيك حوثي متعدد المستويات، يسعى لتحقيق ما يلي:
إرباك مشروع الحسم الوطني الشامل:
عبر صناعة بؤر تمرد وتخريب داخل المحافظات المحررة، يأمل الحوثي أن يشتّت تركيز الشرعية ويمنع تشكل إرادة مركزية تُفعّل القرار السيادي وتبدأ كسر الجمود العسكري.
خلخلة الجبهة الداخلية في مأرب:
الحوثي يدرك أن مأرب ليست فقط مدينة، بل رمز وقلعة، وأن سقوطها – حتى إعلاميًا – سيعيد تشكيل المشهد اليمني كله.
من هنا، فإن خلق الفوضى في خاصرتها الشرقية (مديرية الوادي) قد يُحدث تآكلاً تدريجيًا في الثقة العامة بالأمن والدولة، وهو أخطر من هجوم مباشر.
ضرب العلاقة بين القبيلة والدولة:
تسعى المليشيا إلى إعادة إنتاج سردية "الدولة ضد القبيلة"، وتقديم نفسها كحليف خفي لبعض مكونات المجتمع في المناطق المحررة، لإحداث شروخ نفسية وواقعية في العلاقة الوطنية الجامعة.
فتح مسارات عبور وتغذية خلفية لعناصرها:
محاولة قطع الطريق الدولي مأرب – حضرموت، يُراد منه أكثر من رسالة؛ فهو يهدف إلى عزل مأرب عن عمقها الشرقي، وخلق ثغرة تسلل محتملة، أو ممر خلفي لتعزيز وجود استخباراتي أو ميداني لاحق.
ثالثًا: الأبعاد السياسية والاجتماعية
سياسيًا:
هذه الحوادث التخريبية تمثّل محاولة واضحة لإرباك مسار إعادة تموضع الدولة الشرعية، عبر تشويه صورتها أمام المجتمع المحلي، ومنع تشكّل جبهة حكومية موحدة في عدن تقود المواجهة المقبلة ضد الانقلاب.
الحوثي – في توقيت دقيق – يسعى إلى بعثرة المشهد، خشية أن تؤدي الحكومة الجديدة إلى تغيير قواعد الاشتباك التي ظل يراهن على تجميدها سنوات.
اجتماعيًا:
أظهرت قبائل عبيدة – وفي طليعتها وجهاؤها ومشايخها – وعياً وطنياً رفيعًا، حين رفضت الزج بها في صراع مرتهن لمخطط تخريبي، وأدركت أن قضية مأرب تتجاوز الجغرافيا إلى كونها رمزاً لصمود الدولة والمجتمع معاً.
إن موقف هذه القبائل يُعيد الاعتبار لمفهوم القبيلة كظهير للدولة، لا نقيضٍ لها، ويضع حدًا لمحاولات تسييس الأعراف وتوظيفها لصالح المشاريع المعادية للجمهورية.
رابعًا: التأثيرات على المشهد اليمني العام
تأكيد أهمية التعامل مع معركة مأرب كجزء من معركة أكبر عنوانها: بقاء الدولة أو انهيارها، فالحوثي لم يعُد يتحرك بالبندقية فقط، بل بالخلايا والخطابات والانقسامات القبلية.
ضرورة الانتقال من المعالجة الأمنية الموضعية إلى التقدير الاستراتيجي الشامل، بما يعزز أجهزة الأمن والاستخبارات، ويحبط أي محاولة لاختراق الجبهة الوطنية من الداخل.
إبراز النموذج المأربي في تلاحم القبيلة مع مؤسسات الدولة، باعتباره نموذجاً يمكن تكراره في تعز، والضالع، ولحج، وكل مناطق المواجهة.
خاتمة: مأرب لا تُخدع... والدولة لا تُخترق
لقد جُرّب السيف على رقبة مأرب ولم تنحنِ، فكيف تُخدع اليوم بالدخان؟
وها هي تعود، بعد كل حادثة، أكثر ثباتاً، وأكثر وعياً، وأكثر قرباً من حلم الدولة.
الحدث الأخير – بما يحمله من أبعاد استراتيجية وسياسية – يمثل إنذارًا جديدًا، لكن الردّ كان أكثر وضوحًا:
الدولة حاضرة، القبيلة واعية، والجمهورية في مأرب ليست قلقة من المحاولات، بل واثقة من سقوطها قبل أن تُولد.