محمد علي محسن حكاية نزاهة وقامة سامقة من الضالع .. حلقة (1)

في دروب الحياة الوعرة، حيث تتسارع خطى الزمن وتتلاطم أمواج المصالح، وحيث تتغير الوجوه وتتبدل القيم، يندر أن تصادف شخصية تترك في وجدانك أثراً عميقاً، لا لبريق منصب زائل أو صخب شهرة عابرة، بل لنقاء سريرة لا تشوبها شائبة، وعلو مبدأ لا يتزعزع، وتواضع جمّ يكسوه هيبة العلم والثقافة وسعة الاطلاع في مجالات شتى من الحياة. هكذا هو الأستاذ محمد علي محسن، الكاتب والصحفي والروائي اليمني الكبير، ابن مديرية جحاف في محافظة الضالع. قامة جمعت بين حنكة الإداري البصير، وعين الصحفي الناقد الذي يرى ما وراء السطور، وروح الروائي المرهفة التي تستشعر نبض الناس وآلامهم.

لقد كان الأستاذ محمد علي محسن نموذجاً فريداً في زمنه. تولى إدارة مكتب الإعلام والعلاقات العامة بمحافظة الضالع لأكثر من عقد ونصف، من عام 2000م حتى عام 2017م. خلال هذه الفترة الطويلة، لم يكن مجرد مسؤول يجلس خلف مكتبه، بل كان قلباً نابضاً بالعمل، وعقلاً مستنيراً بالثقافة، وروحاً متواضعة لدرجة أننا لم نستطع حينها أن نميز بينه وبين موظفيه. كان يفهم العمل بعمق، ويدرك تقلبات الزمان وتدوير الوظائف، ولذا كان نقياً من أي غرور أو تعالي، يتعامل مع الجميع ببساطة واحترام، كأنه واحد منهم، لا يعلو عليهم بمنصب أو جاه، بل يسمو عليهم بخلقه ونبله.

ولعل أبلغ شهادة على نبل أخلاقه ونزاهته المطلقة، تلك القصة التي حُفرت في ذاكرتي، ولا يمكن أن أنساها مدى حياتي. تعرضت لظلم مجحف من قبل مدير عام مكتب الخدمة المدنية بمحافظة الضالع عام 2005م، المدعو محمد ثابت الحدي. أثناء تقديمي لملفي لمكتب الخدمة المدنية في المحافظة، كان هذا المدير، كما اتضح لي لاحقاً، مرتشياً يختلس مبالغ طائلة من المتقدمين للوظائف، يبيع الأحلام والفرص لمن يدفع أكثر، متجاهلاً استحقاق المتقدمين بناءً على المفاضلة. كنت أنا الأول في المفاضلة، بمعنى كنت أنا المستحق للوظيفة بجداره في عام 2005م. فما كان من مدير الخدمة المدنية محمد ثابت الحدي إلا أن تحايل في تأخير اسمي ووظف واحداً آخر. ولما ذهبت إلى بيته أستفسره لماذا عمل هكذا وظلمني، أجابني ببرود صادم أن هذه الوظيفة ليست لي. ولما ألححت عليه يفتش ملف المفاضلة، وأشرت عليه بإعطائه مبلغاً من المال ليرى كلامه، قال لي: "كم ستعطيني؟" قلت له: "ثلاثمائة ألف". فرد عليّ بوقاحة: "قد أعطاني الطالب المتقدم للوظيفة مبلغ ثمانمائة ألف ريال". وهنا تأكد لي فساد هذا المدير وبيعه للوظائف بمبالغ طائلة، وتحطم أملي تحت أقدام الرشوة في مشهد لا ينسى من قبح الفساد.

في لحظة القهر هذه، حيث تاه الأمل وساد الظلم، وحيث شعرت أن الدنيا قد أغلقت أبوابها في وجهي، جاء دور الأستاذ محمد علي محسن، كأب حنون وأخ لا مثيل له. لم يكتفِ بالتعاطف مع حزني وقهر ما أصابني من ظلم على يد محمد ثابت الحدي، بل بادر فوراً بالعمل، بكلمات تفيض بالصدق والأمل، أعادت لي شيئاً من روحي المكسورة: "لا تقلق ولا تشيل هم، سنرفع لك طلب وظيفة إلى مدير شؤون الموظفين بديوان المحافظة بمحافظة الضالع (مكتب الإدارة المحلية)، وإن شاء الله يستجيبوا لنا بتخصيص درجة وظيفية لمكتب الإعلام، وحينها سيتم توظيفك العام القادم بدون تعب وبدون مقابل، ولن تدفع ريالاً واحداً لأحد". وفعلاً، صدق وعده، رفع الأستاذ محمد الطلب، وتمت الموافقة عليها، وتوظفت بموجبها مباشرة في العام القادم. تأثرت جداً من هذا الموقف العظيم الذي صنعه معي محمد علي محسن، حتى سالت الدموع من عيني تأثراً وفرحاً، وحملت له الجميل في نفسي، ديناً من النبل لا يُسدد بثمن.

وفي يوم آخر، ذهبت إليه وقلت: "يا أستاذ محمد، موقفك تاريخي وعظيم ولا يمكن ينسى، سأشتري لك اليوم قات هدية لك". فرد عليّ برد حاسم ونبيل، يجسد قمة النزاهة التي لا تساوم: "أقسم بالله ما تشتري لي قات من السوق حتى بريال واحد، ولا يمكن أن آخذ منك أبداً إلا إذا كان هذا القات من حوايطكم وجربكم وملككم الخاص، سوف آخذ منك، أما غير ذلك فلا". ولما كلمت والدي، رحمة ربي تغشاه، بأمر محمد علي محسن وموقفه العظيم معي في الوظيفة، ورفضه أخذ أي مقابل مادي، حتى ثمن تخزينة يوم، فقال أبي لي بكلمات قليلة تحمل حكمة عميقة وتلخص جوهر الرجل في زمنٍ أصبح فيه النقاء عملة نادرة: "يا ابني، هذا الإنسان نادر في زماننا هذا، زمن الرشوة والمحسوبية والمجاملات. هذا صحابي جليل".

لم تقتصر حياة الأستاذ محمد علي محسن على العمل الإداري، بل كان قامة صحفية وأدبية بارزة، صوتاً

حراً يصدح بالحق في زمنٍ قلّت فيه الأصوات الحرة. كان مراسلاً لصحيفة الأيام وكاتب عمود صحفي فيها أثناء رقي وتوسع وشهرة الصحيفة، وظل سنوات يكتب فيها، إلى جانب كتابته عموداً صحفياً ثابتاً في صحف أخرى مثل النهار، الشارع، والغد، وصحف أسبوعية أخرى، إضافة إلى نشاطه الصحفي كمراسل لصحيفة الشرق الأوسط السعودية لفترة زمنية محددة. ما أكسبه شهرة واسعة وحباً واحتراماً حظي به من الناس في شتى محافظات الجمهورية، لأنه كان ولا يزال كاتباً صحفياً جسوراً وشجاعاً، لا يخشى في الحق لومة لائم، يكتب بصدق عن هموم الناس ومعاناتهم وقضاياهم المختلفة، يضع قلمه في خدمة الحقيقة والضعفاء.

هذه الشجاعة لم تمر دون ثمن. فقد تعرض لمضايقات شديدة من المسؤولين في الدولة، وتم استهدافه عدة مرات، بل وأصيب برصاصة غادرة في رجله ألزمته الفراش شهوراً عديدة، شاهداً على ثمن الكلمة الحرة في زمنٍ لا يرحم. أتذكر كيف كان لحسون صالح مصلح، وكيل محافظة الضالع في عامي 2007 و2008 كما أتذكر، يعتدي عليه هو ومرافقيه إلى مكتب الإعلام بمحافظة الضالع، ويستفزه بعبارات نابية وسيئة، ويحاول ضربه وأخذه إلى السجن كما كان يزعم آنذاك. إلا أن الأستاذ محمد كان يتجنبه ويبتعد عنه كلما شاهده، لأنه كان مسؤولاً همجياً يعتدي ويلوح بالضرب والسجن كلما كان يرى محمد علي محسن. ورغم كل التهديدات والاعتداءات، ظل الأستاذ محمد علي محسن رابط الجأش، لم يتنازل عن مبادئه قيد أنملة، ولم يستطع أحد من المسؤولين ثنيه عن كتاباته الخاصة بقضايا الناس وهمومهم، ولا مساومته في ذلك، رغم وعودهم له بالترقية في المناصب إذا ترك معارضته الشديدة ونقده المتواصل لفساد النظام.

وفي النهاية، كان الثمن هو الإقالة من منصبه كمدير عام للإعلام بمحافظة الضالع، وتبديل واحد بدله، نكاية لمواقفه المبدئية الصلبة والشجاعة مع قضايا الناس وهمومهم ومعاناتهم. هكذا يُكافأ الشرفاء في بعض الأحيان، بالإبعاد والتهميش، بينما تُفتح الأبواب لمن يتقن فن المساومة والتنازل، في مشهد يعكس اختلال الموازين في زمنٍ عصيب.

إن الأستاذ محمد علي محسن، هذه القامة النبيلة، لا يزال بيننا، شاهداً حياً على أن النزاهة والشجاعة والمبدئية ليست مجرد كلمات في الكتب، بل هي صفات يمكن أن تتجسد في إنسان، حتى في أصعب الظروف. إنه نموذج للشخصية التي جمعت بين العلم والتواضع، والنزاهة والشجاعة، والإخلاص للوطن وقضايا الناس. حكايته شهادة على أن النزاهة والمبدئية لها ثمن باهظ في بعض الأحيان، وأن القامات الحقيقية قد تُهمش، لكن أثرها وذكراها الطيبة سيبقيان منارة للأجيال القادمة، وتذكيراً بأن الخير لا يزال موجوداً في هذا الوطن، ممثلاً في أمثال الأستاذ محمد علي محسن، الذين يضيئون دروب الحياة بنبلهم في زمنٍ شحّت فيه الأنوار.