هوامش على متن حديث ولي العهد!
لا تستطيع بالتأكيد أن تمنع الرئيس الأميركي، ولا أي رئيس سواه، من الكلام عن بلدك بما يحب ويرى، ولا تستطيع أن تطلب منه في المقابل، ولا من غيره بالضرورة، الحديث عن بلدك نفسه، بما تحبه أنت لبلدك وتراه، ولكن في مقدورك على سبيل القطع، أن ترد على ما يقال على أي مستوى من مستويات الحديث، بما يبدو لك مناسباً، وبما تعتقد أنه صحيح، وأنه صواب، وأنه في مكانه، وأنه يؤدي الغرض، وأنه يصيب الهدف في صالح الوطن وأبناء الوطن!
هذا بالضبط ما دار في خاطري، حين قارنت بين ما قيل على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فيما يخص جانباً من جوانب العلاقة بين بلاده وبين المملكة العربية السعودية، أو ما بدا أنه كذلك، عبر فيديوهين كانا منتشرين لترمب، وبين ما قيل على لسان الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، إيضاحاً لزوايا في الموضوع، خلال حديث له مع وكالة «بلومبرغ» الأميركية، نشرته هذه الصحيفة صباح السبت على صفحتين اثنتين!
وإذا كان ما قاله الأمير محمد في هذا الشأن مهماً، وهو مهم بالطبع، إلا أن الذي لا يقل أهمية عما قيل من ناحية ولي العهد، هو توقيت الرد، وتوقيت إجراء الحوار مع الوكالة الأميركية... فقبلها كان الفيديوهان الرئاسيان الأميركيان، ينتشران على مواقع التواصل، ومواقع الأخبار الإلكترونية، انتشار النار في الحطب، وكان السكوت عن بعض ما ورد فيهما، دون رد مقنع، ودون توضيح منطقي لوجهة النظر السعودية، سوف يزيد من شيوعهما، وسوف يضاعف من ذيوعهما، وسوف يمنح فرصاً مُضاعفة لهواة التفسير الذي يستند إلى الهوى، أكثر مما يستند إلى شيء آخر... وما أكثر مثل هده التفسيرات على تلك المواقع المدمرة هذه الأيام، في موضوعنا الذي نتحدث فيه، وفي غيره من شتى الموضوعات سواء بسواء!
وما أعجبني في الرد الأميري، أنه كان موجزاً، وأنه لم يدخل في جدل كبير ولا صغير حول الموضوع، ولا حتى سمح بفتح باب إلى جدل لن يكون مفيداً في كل أحواله، ففي مثل هذه الأحوال يظل أفضل شيء هو وضع النقاط فوق حروفها، ثم إغلاق الملف، للانصراف إلى غيره من الملفات!
فما الذي قاله الأمير في هذا السياق؟!... قال إن ما تحصل عليه الرياض من سلاح، من الولايات المتحدة، إنما تشتريه وتدفع ثمنه من خزانتها العامة، ولا يأتيها بالمجان... وهذه حقيقة. ثم قال - ما معناه - إن المملكة قادرة على حماية نفسها من أعدائها، وإن وجود رئيس في البيت الأبيض على غير وفاق مع أجندة عملها، مثل الرئيس السابق باراك أوباما، لثمانية أعوام كاملة، لم ينل من قدرتها على الدفاع عن نفسها، ولا جعلها تدفع ثمناً لحمايتها إلى أحد... وهذه حقيقة ثانية، يعرفها كل الذين تابعوا أجندة عمل أوباما، التي أرادت فرض الإسلام السياسي على دول في المنطقة فرضاً! وقد كانت نتيجة إصرار الرئيس السابق على فرض تلك الأجندة، وعلى الدفع بقوى الإسلام السياسي إلى مواقع الحكم في منطقتنا، دون جاهزيتها للحكم، ولا امتلاكها أدواته، ولا احترامها دساتير الأوطان، نتيجة كارثية بكل مقياس، وتكفيك نظرة عابرة إلى طرابلس الغرب، أو دمشق، أو صنعاء، على وجه التحديد، لترى بالعين المجردة، إلى أي حد كانت أجندة الإدارة الأميركية السابقة، أجندة مأساوية بكل معيار!
غير أن هناك بُعداً آخر فيما كانت الرياض ترد عليه، من خلال الحديث المُطول مع «بلومبرغ»... هذا البعد ربما تكون قيود الدبلوماسية المتعارف عليها قد منعت من التطرق إليه، أو وقفت دون الخوض فيه، وأقصد به أن هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس ترمب بهذه الطريقة، عن جانب من جوانب علاقات بلاده مع دول حليفة كثيرة حول العالم!
وليس علينا في هذا الإطار، إلا أن نعود بهدوء إلى حديثه المتكرر، منذ جاء إلى مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض، عن تصوره لطبيعة العلاقة التي تجمع بين واشنطن، ودول أوروبا كلها، بل دول حلف شمال الأطلسي الشهير بحلف الناتو!
إن ما بين الولايات المتحدة، وبين دول أوروبا، أو دول «الناتو» التي ليست كلها أوروبية، لأن منها دولاً غير أوروبية كتركيا مثلاً، من علاقات، وتاريخ، ومصالح مشتركة، هو شيء ليس له وجود من حيث قوته، وامتداده، ورسوخه، بين أي طرفين سياسيين آخرين على مستوى العالم كله، ومع ذلك، جاء وقت على الطرف الأوروبي سمع فيه من ترمب، لأكثر من مرة، أن عليهم في أوروبا أن يدفعوا ثمن دفاع الأميركان عنهم، وعن أمنهم، وكان ذلك منطقاً ليس فقط عجيباً، أو غريباً، ولكنه كان جديداً على مبادئ العلاقات الدولية المستقرة بطبيعتها بين الدول الحليفة!
حدث هذا من جانب الإدارة الأميركية الحالية، تجاه دول أوروبية أو أطلسية حليفة، وصديقة، وقريبة، وليست أبداً من الخصوم، ولا من الدول الأعداء، ولا من الدول المشاكسة... دول كانت توصف تاريخياً، ولا تزال توصف، بأن بينها وبين واشنطن، علاقات استراتيجية قادرة على مقاومة تقلبات الزمان!.. ولم تكن دول الاتحاد الأوروبي تدري بماذا عليها أن ترد، في كل مرة كانت تسمع فيها مثل هذا الكلام من سيد البيت الأبيض، وكانت تقاوم رغبة تتدافع داخلها في اتجاه الاشتباك معه، وكان يكبح مثل هذه الرغبة لديها، أن ما بين الدول والحكومات يبقى ويعيش، وما بين الحكام أو الأشخاص يتغير، ويتحول، ويزول! وفي لحظة فاض الكيل بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقال في محفل عام، كان يتحدث فيه مع سفراء لبلاده في الخارج، إن على أوروبا أن تكون على استعداد للدفاع عن نفسها، وإن عليها ألا تعتمد على طرف آخر في مجال حماية أمنها... قال ذلك دون أن يسمي الولايات المتحدة، وقد كان يقصدها طبعاً، ولكنه آثر الكلام على طريقة: إياكِ أعني... واسمعي يا جارة!
ولذلك فالنغمة التي عزف عليها ترمب في الفيديوهين إياهما، لم تكن جديدة. صحيح أن النبرة في حالة كلامه عن جانب من جوانب علاقات إدارته مع المملكة، كانت مختلفة، ومستفزة، غير أن الصحيح أيضاً أن هذا هو ما استدعى الرد السعودي القوي، والسريع، الذي نقلته وكالة «بلومبرغ» عن ولي العهد إلى أنحاء الدنيا! والهدف دائماً لدى كل عاصمة، في مثل هذه الحالة، هو عدم افتعال مشكلة مع الإدارة الأميركية، أي إدارة، وإنما الهدف هو المسارعة إلى إعادة العلاقات لمسارها الصحيح، كلما بدا أنها على وشك الخروج عنه في مرحلة من مراحله، كما أن الهدف هو أن يصب مسار العلاقة لدى الطرفين، بالتوازي، وربما بالتساوي!