في ذكرى سبتمبر.. القاضي الإرياني ونضال الحرية (2)

عَزلت الإمامة اليمن، وصنعت منه بلداً يتهيب الجديد، ويتوجس منه الغريب. ينظر سكانه للأجنبي نظرةً ملؤها الحذر والخيفة، وتبدو صورة خروج صنعاء عن بكرة أبيها للتفرج على أول مسؤول أجنبي يصل إلى اليمن مشهداً لطيفاً يعكس ما عليه البلاد بسبب العزلة، ومع ما كان يسمعه السكان من استيلاء المستعمرين على الأقطار العربية والإسلامية فقد كانوا يؤثرون التخلف والانعزال مع الاستقلال على التطور مع الاستعمار. وقد قوبل وصول الوفد الايطالي إلى اليمن من عامة الشعب وطبقة العلماء بالاشمئزاز، وكاد أن يتعرض الوفد لما يكره.

لم تعرف البلد الكهرباء إلا بعد ثورة ١٩٤٨م بأعوام كثيرة، وكان عِلّية القوم وعامتهم يقبعون في الظلام إلا مولداً صغيراً يشرف عليه الإيطاليون كان يمد قصر الإمام (دار السعادة) بالكهرباء، وحينما أهدت إيطاليا للإمام بضع طائرات عتيقة لم يكن مستغرباً أن يثير حدث وصولها جلبة عظيمة، حتى الراديو كان يمنع شرائه لإذاعته أغاني يحرم سماعها، ولرغبة الإرياني باقتنائه يوماً اضطر لمكاتبة الإمام للحصول على إذن خاص يسمح له بذلك، ليأتي الجواب عليه بالسماح فمثله "ممن لا يلهو بسماع الملاهي".

 

كانت السفن التي تقصد ميناء الحديدة تبقى في عرض البحر ويتم نقل الركاب والبضائع منها وإليها بواسطة القوارب الشراعية الصغيرة، فلم يكن الميناء مجهزاً لاستقبال أي سفينة مهما اختلف حجمها، وحتى القوارب الناقلة تنعدم أحياناً، وقد تسبب الإمام في إحراج نفسه أمام القبطان الذي نقله بالسفينة من ايطاليا إلى الحديدة، فحينما وصلوا لم يجدوا قارباً واحداً ينقل الإمام وزمرته من النساء ورجال الدولة، واضطر إلى إخراج زوارق الطوارئ من على السفينة لنقلهم.

 

ولشدة ما كانت عليه اليمن من التخلف والرجعية جعلت من الأمير الحسن - وقد قضى مدة في أمريكا ورأى بعض مظاهر الحداثة فيها وهو من أشد الأمراء جموداً وحنيناً إلى الماضي - جعلت منه الاعتراف بذلك، وقد رد على أحدهم استحسن لطف الله باليمن والسعودية لعدم وقوعهم تحت وطأة الاستعمار بأنها لو وقعتا "لكان الله بهما أرحم وعليهما أكثر عطفاً" واستغرب الجميع لقولته هذه، وعقب الإرياني على الحادثة بأنها جاءت مصداقاً لما قاله الأمير شكيب أرسلان بعد زيارته لليمن.

 

كل تلك الظروف وغيرها شكّلت وعياً جديداً بضرورة الانفلات من هذه السلطة العجوز المترهلة، لذلك بدأ الإرياني ممارسة العمل السياسي مبكراً في بدايات الثلاثينيات، في مجالس صنعانية جمعت بينه وبين نخبة من الثوار، أمثال المحلوي والمطاع والعزي السنيدار والعزب والسياغي والشماحي والخالدي وغيرهم، وشكلت هذه المناقشات البذرة الأولى للوعي بضرورة المعارضة، وقد تعاون الإرياني مع المعلمي في تحرير المنشورات سراً بخط اليد، وبثها في المساجد والطرقات، وكانت تجد لها صدى مسموعاً بين المواطنين، وغالباً ما تأتي المنشورات في شكل قصائد تنتقد الفاسدين من رجال الدولة والإمام، وتُبرز الحوادث التي يراد بها تغييب العامة عنها، ومما كتبه الإرياني حينها وأحدث جلبة:

ساد الفساد فلن ترى 

غير الخليع موقرا

في دولة أوهى الزمان

مليكها المتجبرا 

 

وقد عُرضت على الإمام فاشتد غيظه، وحبس كل من شكّ فيه، ونفى الزبيري، واتهم الأستاذ محمد زبارة وبعث إليه برسالة مليئة بالتهديد، فنفى زبارة تورطه، وكتم علمه بأن الإرياني كاتبها، وكان منشور المعارضة الأسبوعي يُعرض عليه قبل نشره، وبيته يعد مجمع الشباب وروّاد الإصلاح وملتقاهم، ولهذا كان الإمام يحيى يسميه (دار الندوة) وهي الدار التي يجتمع فيها كفار قريش.

 

كانت السلطة تعمد إلى مقارنة الخطوط ببعضها لمعرفة كاتبها، مما عرّض العديد للسجن والنفي لمجرد الاشتباه، وخوفاً من الوقوع في مصيدة الإمام، وتجنيب الآخرين مغبّة الوهم، وقد وصّف الإرياني المرحلة بقوله "نعيش في ظل حكم يعاقب على الوهم أكثر مما يعاقب على الحقيقة"، مما دفعه ورفاقه لاختراع طريقة فريدة تُكتب بالخط العريض في مدرسة النضال والمعارضة، إذ كانوا بعد صياغة المنشور يجمعون أعداداً كثيرة من (مجلة الإيمان)، ويلتقطون منها كلمات المنشور كلمة كلمة، ثم تلصق إلى بعضها، ويحصلون على نسخة محررة من المنشور، بعدها يوضع عليها البياض لأخذ نسخة أخرى بعد الصاقها بالزجاج للتمكن من الكتابة على حروفها، ويتولى كل واحد نقل عدد من النسخ بهذه الطريقة، وكانت تستغرق اليومين والثلاثة لإنجاز المهمة، ولعدم وجود طابعة آنذاك اعتقدوا قدومها من عدن، والتي كانت تحت قبضة الاحتلال الإنجليزي.

 

اتخذ النضال بعدها طابع التنظيم عند تأسيس (جمعية الإصلاح) التي تعد أحد روافد الحركة الوطنية الأساسية في عدن بقيادة النعمان والزبيري، واختير القاضي محمد الأكوع رئيساً للجمعية، وضمت إليها أغلب الأسماء البارزة في العمل الحركي أمثال الشيخ حسن الدعيس والإرياني والمعلمي وغيرهم، وكانت جلساتها تعقد في بيت الأستاذ عبده باسلامه، ووضع لها نظاماً واضحاً وضريبة شهرية مفروضة على الأعضاء، وتم الترتيب مع قيادة التنظيم في عدن، وبدأت بنشر المنشورات وضمّ المشائخ، واستقطاب التجار والمثقفين، وما هي إلا بضعة أشهر حتى يكشف أمر الجمعية وتقع جميع أوراقها وأعضائها في قبضة سيف الإسلام الحسن، ويبدأ مسلسل الاعتقالات من جديد، وهذه المرة شمل السجن الارياني أيضاً.

 

وفي إحدى ليالي السجن أُستُدعي الإرياني والدعيس للمُثول أمام ولي العهد، وتمت مساءلتهم وعرض عليهم بعض الأوراق التي عثر عليها بين أوراق الجمعية، وسُئل الإرياني عن (اليحصبي) وكان الاسم الحركي له، فنفى صلته به وكذلك فعل الدعيس.

 

وفي السجن كانت الصحف والرسائل تصل إليهم من عدن، تتحدث عن القضية وعن سجن الإرياني ورفاقه، كما جاء أيضاً خبر فرار الموشكي والشامي إلى عدن والتحاقهم بالزبيري والنعمان، وتشكيل جمعية للعمل الوطني، الأمر الذي رفع معنوياتهم بعد أن كادت تموت.

 

سجلّت حركة (الإخوان) حضورها في العمل الحركي اليمني، وساهمت في تفجير ثورة الدستور ١٩٤٨م، وكان للزبيري وعبدالله الوزير والمسمري والعنسي من رجالات الثورة اتصال ومعرفة بالشيخ حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وإن لم يكن أي منهم عضواً في الجماعة، وقد انتدب البنّا الفضيل الورتلاني الجزائري لتسيير الحراك في اليمن، وكان على جانب من العلم والعقل، فكان يرى أن الثورة تفتقد القواعد الشعبية، والجماهير غير مرتبطة بها ولا تنتظرها، فاقنع الثوار بضرورة التدرج في المعالجة، والتخلص من الإمام المستبد بإمام لديه القابلية للتطور، والرغبة في الخروج من العزلة المضروبة على البلد، ويكون ذا شعبية وحضور لدى القبائل الشمالية التي يتوقف على ولائها الثورة، وتم إقناع عبدالله الوزير بتولي الإمامة بعد الثورة.

 

أتفق الثوار على اغتيال الإمام يحيى وألقيت الوظيفة على عاتق القردعي ولكنه تردد في النهاية وأجلت أسبوعاً، وطلب القردعي فتوى من العلماء تبرر قتل الإمام يحيى فأفتاه الوزير بذلك، وقد تمكن من الانقضاض عليه وقتله، وشهدت الثورة مخاضات كثيرة انتهت بالفشل وزجّ العشرات إلى السجون، وتلذذ الإمام أحمد بصلب الثوار وتعذيبهم وإعدامهم، ولم يفلت الإرياني من السجن الا بعد ست سنوات.

 

وفي السجن يضطر الإرياني ورفاقه إلى الاتصال بالخارج عن طريق المكاتبات والرسائل، وتخضع جميعها للتفتيش والمراقبة، وإذا ما كان هناك أمراً سرياً لا يرجون اطلاع أحد عليه، قاموا بحيل عدة منها أنهم يضعون الرسالة بين طبقتين من طبقات أغلفة الكتب، وكان أغلبها من الكتب المخطوطة، وأغلفتها من الجلد المبطن بطبقات الورق، ويتم غراء الطبقتين ببعضها، فيمتنع الشك، ويتحقق المطلوب.

 

ولابد من إشارة إلى نفسية السجين الممزقة التي تفقد المعنى من الوجود مرات كثيرة، وحسبك من ذلك حينما أيقض الحرس الإرياني يوماً وأمروه بتحرير وصيته فقد جاء أمر إعدامه بعد صلاة الجمعة، فيسرع إلى كتابة ما يخطر على باله، والله وحده الأعلم بما يقاسيه داخله في تلك الساعة، وينهض الرفاق لتوديع بعضهم وقد قربت ساعة النهاية، ثم يتاح له الاغتسال والصلاة وانتظار استدعائه، بعدها بساعات طوال من الترقب يأتي الخبر بتأجيل إعدامه إلى الأسبوع القادم، ويحدث له مثل ما حصل في الأسبوع المدبر، ويلخص الإرياني الحال التي تلبست أهله بأنهم "يعيشون مع الترقب والخوف وقلق الانتظار، وأنا في نظرهم لا حي فيرجى ولا ميت فينعى"، ويا لها من سكرات مفزعة.

 

نظراً لتمذهب السلطة (الإمامة) بالمذهب الزيدي الذي لا يرى بولاية العهد، ويقول ببدعية توريث معاوية ابنه يزيد في حياته، ولرغبة البدر بالولاية بعد أبيه عمد على استمالة الأحرار إلى صفه، وأخذ يعمل لدى والده على تخفيف غضبه عليهم وإيقاف رهق سيفه فيهم، وعند خروجهم من السجن عمل الشامي على إقناع البدر بضرورة تولية الإمام له وكتب الإرياني نص البيعة للبدر التي فعلت فعلها في فتّ أواصر الارتباط بين الأسرة الحاكمة الذين يرون أحقيتهم وأهليتهم بالحكم من البدر، وبعيداً عن الظروف المحيطة وقتها إلا أن النص فيه تطويع للشريعة ولي عنق الحقيقة بصورة ذكية تخدم مصالحهم وما ابتغوه، أشبه ما يكون بفتاوى وعاظ السلاطين لولا أن المحيط مختلف. 

 

وأتفق الإرياني ومن معه من بقايا السالمين على مهادنة البدر ابن الإمام أحمد والعمل من خلاله على بذر الخلاف بين أفراد الأسرة الحاكمة، وقد مكنهم القرب من السلطة من معرفة الكثير من الأمور المعينة في العمل الوطني، والإسهام في العديد من الأحداث المهمة التي اشتركت فيها اليمن مثل الحلف الثلاثي مع مصر والسعودية، أو الاتحاد الفدرالي مع مصر وسوريا، والذي بدوره انعكس بالإيجاب على الحراك النضالي، وكان الإرياني إذا خرج إلى القاهرة في وفدٍ حرص على زيارة الزبيري والنعمان سراً لمدارسه قضية الكفاح، والمستجد من الأمور.

 

أدمن الإمام أحمد تعاطي المخدرات، واعتزل الشعب، وفقدت البلاد السيطرة، مما جعل النضال يعود بوجهٍ جديد أسفر عن (برنامج العمل الوطني)، مثّل قفزة كبيرة في تفكير الثوار، وبدأوا من خلاله يدركون دوائر التأثير الحقيقية في البلد ممثلة بـ (القبيلة)، وقد كان جلّ مخرجات البيان تتحدث عنها في محاولة جادة لاستنهاض روح العزة والكرامة في نفوسهم، إضافة إلى الاهتمام بأمر الجيش، والعمل على استمالته لصالح القضية، والأمر الأكثر بروزاً هذه المرة كان تحديد الداء العضال الذي فتك باليمن وأعني (الإمامة)، وترجحت فكرة الاستئصال من الجذر، وكما يتضح من البيان أنه يحمل مشروع دولة. 

 

وفي بيروت الأبية، بينما الإرياني ممد على السرير بعد إجراء عملية له لمعاناته من مرض البواسير، إذ طال أمد التخدير، واستمر في غيبوبته إلى اليوم التالي، وقد بلغ به الحال أن يتمتم بكلام ضد الإمامة، أخبره صديقه زيد الوزير بما يقول بعد استفاقته، وقد حال بينه وبين الزيارة خشية أن يُسمع بعض ما كان يهدي به، فيُلقى في غياهب الجب إلى غير عودة. 

 

وبقي النضال يسري في تفاصيله بعد الثورة أيضاً مع اختلافٍ في المفهوم، فقد أوصلته الثورة إلى السلطة إلا أن مبادئه لم تسمح له بالسكوت عما يراه من انحرافات الثورة، فأخذ يصلح قدر استطاعته، ويرسل المكاتيب إلى المعنيين بضرورة التصحيح ونكران الظلم والتعمية عليه، ويسعى إلى وضع علاقة صحية بالخارج بعد أن أصبح القرار المصري في اليمن مقدم ومفروض على القيادة اليمنية، وشنّع على النفسيات المريضة التي تجري خلف المناصب، وتتلمس حصتها في كل موطن، كل ذلك سعياً في يمن جديد تسود فيه قيم الحرية والعدالة، والتنمية والاستقرار إلا أنه لم يتحقق بعد.

مقالات الكاتب