في ذكرى سبتمبر.. فصول من الذاكرة "القاضي الارياني نموذجا" (1)

النشأة والتشكل

تسجل اليمن رقماّ منخفضا في حركة التأليف، وتأتي كتابة المذكرات والسير الذاتية في السّلم الأدنى من هذه الكتابات، ومجموع ما كتب فيها يعدّ بالأصابع، وهنا تعد مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني ضمن المذكرات الجيدة والممتلئة، فهي من أوفى وأشمل ما صدر عن الحركة الوطنية، وأرّخت لفترة حرجة من عمر اليمن بقلم أدبي وعبقري، وتقع المذكرات في أربعة مجلدات صدر منها مجلدان حتى الآن، حيث اشتغل الإرياني في جزئه الأول والذي جاء في تسعة عشر فصلاً على الفترة من سنة ١٩١٠م وهو العام الذي ولد فيه، إلى سنة ١٩٦٢م عام الثورة، وجاء الجزء الثاني في إحدى عشر فصلاً أكمل فيه إلى سنة ١٩٦٧م اللحظة التي تولى فيها رئاسة الجمهورية، وقد بلغ عدد صفحات الجزئين (١٣٢٤) صفحة.

وبعد قراءة فاحصة لجزئي المذكرات كتبتُ فيها مقالين، يهتم المقال الأول بنشأة الإرياني وتشكله، والمدخلات التي أسهمت في صناعة شخصيته المزدحمة، وشيء من فكره وقيمه، أما المقال الثاني فعالج طبيعة الظروف التي فرضت العمل النضالي، والصعوبات التي تعرض لها الإرياني ومن معه في رحلة الثورة والنضال، وأساليب المعارضة وطرقها المستخدمة، والتي أرجو من خلالهما أن يكون مدخلاً جيداً للتعرف على شخصية الإرياني بشكل عام.

إنه الرئيس المثقف، والأديب المناضل، وكل ذلك دافعاً لقراءة مذكراته، والاستفادة منها.

ولد الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في العاشر من يونيو (حزيران) سنة ١٩١٠ للميلاد، ونشأ وترعرع في هِجرة "إريان"، وجاء من أبوين كريمين، فأمه التي فارقته باكراً وهو لا يزال في الثانية عشرة من العمر امرأة فاضلة ذات ديانة عُرفت برجاحة العقل وحب الصدقة، ووالده من أبرز علماء عصره المتضلعين بشتى العلوم الشرعية، والمنفتحين على العلوم الحديثة، يتمتع بحرية الفكر، وعزوفه عن التقليد، والعمل بالكتاب والسنة.

ينحدر القاضي الإرياني من أسرة عريقة في العلم والأدب، تولى الكثير من أبنائها القضاء والإدارة والوزارة في الحقبة الإمامية من عمر اليمن، في عهد الإمام الناصر بن عبدالله بن الحسن والإمام المتوكل محمد بن يحيى والإمام المنصور علي بن المهدي، كما هو الحال مع كاتب المذكرات، وأبيه الذي ترأس محكمة الاستئناف في عهد الإمام يحيى.

رفضت الأسرة الإريانية أي شكل من أشكال التعاون مع الأتراك القادمين إلى اليمن باسم الدولة العثمانية، وردّت ما عرضته لها من المناصب في صورة يصفها الإرياني بـ (المتزمتة)، وقد نالت على إثر ذلك عدوان الدولة على بيوتهم وأموالهم، وأعطت الأسرة ولاءها للزعامة الوطنية التي تقود الثورة ضدهم متمثلة بالإمام المنصور ثم بابنه المتوكل غير أن هذا الولاء كان "مفتوح العينين" فلم يمنعهم من تأدية أمانة النصح للإمام، ومطالبته بالعدل، وتحذيره من مغبّة الظلم، ويشهد على ذلك المكاتبات الكثيرة التي جرت بين والد القاضي الإرياني والإمام يحيى نظماً ونثراً، وتبعه على ذلك الابن، وكان من جملة ما سطره والده من أشكال المعارضة السياسية أبياتاً شعرية قال فيها:

فوا أسفا ما العذر للترك أننا

وعدنا بإجراء الشريعة مطلقا

وقلنا لهم أنتم هدمتم بناءها

وقد كان قصر العدل يعلو الخَوَرْنَقا

وأما إذا صارت إلينا فإننا

سنجعل بين العدل والظلم خندقا

فلما ملكنا خفّها وسنامها

أضعنا وأبدينا اعتذاراً ملفقا

حفظ الإرياني القرآن الكريم على العلامة عبد الواسع بن محمد الإرياني، وقرأ النحو والفقه والحديث، واستظهر المتون على يد والده القاضي يحيى الإرياني، بعدها انتقل بأمر من والده إلى مدينة "ذي جبلة" المدينة التي اتخذتها الملكة السيدة زوجة الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي عاصمة للدولة الصليحية، ودرس بها على العلامة محمد بن مطهر الغشم، وقرأ عليه مجموعة من الكتب الشرعية والعربية، ثم انتقل للدراسة في المدرسة العلمية التي افتتحها الإمام يحيى في صنعاء، وقد بَعُدَ عهد الناس باهتمام الدولة بالعلم، والانفاق على طلبته. عمد الإمام يحيى إلى حيازة غلّات الأوقاف المخصصة للنفقة على هِجر العلم ومعاقله المتفرقة في زبيد وصعدة وإريان وغيرها من المدن والقرى، وربط أوقافها بالأوقاف العامة لصرفها على طلاب المدرسة حديثة الإنشاء، مما أعجز معظم الهِجر عن الاستمرار في القيام بواجب التدريس.

كان التدريس في المدرسة لا يختلف عنه في الجوامع، والذي يعتني بتدريس العلوم الشرعية والعربية على الطريقة التقليدية، وتتلمذ الإرياني في المدرسة على ثلة من علماء اليمن أمثال الشيخ علي بن فضة والشيخ عبدالله السرحي والشيخ عبدالخالق الأمير والشيخ أحمد الكحلاني ونخبة أخرى كثيرة من العلماء والمشائخ.

من المدخلات التي أسهمت في صناعة وتشكيل فكر الإرياني التقاءه في لحظة مبكرة بكتابات مجتهدي اليمن كالوزير والمقبلي والجلال والأمير والشوكاني، وكان لها ما لها في تحرير فكره وحضّه على مناهضة الوضع الذي يتعارض مع ما تدعوا إليه القيم الدينية التي ترسخت في النفس كالعدل والقسط وغيرها من القيم الفاضلة.

ثم انفتح الإرياني على قراءة كتب الإمام جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والكواكبي، وأولاها اهتماماً فائقاً، وأشار إليها في مذكراته أكثر من مرة باعتبارها مرحلة جديدة من التأسيس ساهمت في توسيع مداركه، ومطالبه، فبدلاً من الاكتفاء بالمطالبة بعدم الظلم صارت مطالبته بالحرية والدستور والشورى ومحاربة الفقر والمرض، ولا شك أنها كانت محطة فاصلة في مسيرته النضالية.

لم يكن سقف المطالب التي كانت تُرفع كتعبير عن المعارضة السياسية إلا انعكاساً عمّا سمح به المحيط المنعزل، والمغلق على نفسه، فحلم الجمهورية كفكرة سيعيشها الإرياني يوماً، ويكون فيها الرجل الأول لم تكن لتخطر على بال، بل كان من الصعب تصورها وفقاً لممكنات تلك اللحظة، لذلك نلاحظ تدرج المطالب المرفوعة حسب كل مرحلة، واشتركت تلك المطالب في إقامة حكم دستوري يستطيع من خلاله الشعب أن يرعى مصالحه، ويقطع دابر الحكم الفردي المستبد والظالم.

في منتصف سنة ١٩٣٦م عيّن الإرياني حاكماً شرعياً لقضاء (النادرة) إحدى مديريات إب، فغادر صنعاء وشَغل منصب القضاء فيها زهاء سبع سنوات، وكان أول عمل رسمي يقوم به.

وبعد عامين من تعيينه قصد الإرياني الحجاز لأداء فريضة الحج والتقى بالشهيد الزبيري لأول مرة في الباخرة المتجهة صوب جدة قبل سفر الزبيري للدراسة في القاهرة، وكانت "لا تزال نظرته الوطنية في المهد" كما يصفه الإرياني، وقد أعدّ قصيدة أطنب فيها المديح للملك عبدالعزيز آل سعود، وعرضها على الإرياني ومن معه في الطريق، اعترض الإرياني على موضوعها، ورأى أنها ستسبب له مشكلة مع الإمام يحيى حيث أن المديح المفرط قد يوحي بالمفاضلة بين الإمام والملك، فأعرض الزبيري عنها ولم يقدمها.

وقد اشترك الإرياني في مجلة الفتح التي كان يصدرها الفلسطيني محب الدين الخطيب في القاهرة، وتأثر بما كانت تسطره من مقالات نضالية تهاجم الفردية، وتدعوا إلى الديمقراطية التي ما كان يستطيع أن يشتم ريحها فضلاً أن يفكر فيها في بلد مثل اليمن آنذاك، كما نشر بأسماءٍ مستعارة في صحيفة "فتاة الجزيرة" التي يصدرها محمد علي لقمان في عدن، ينتقد فيها الوضع المترهل في الحقبة الإمامية.

وقبيل أيام من عيد أضحى سنة ١٩٤٣م وصلت برقية من صنعاء تعلمه بمرض والده، فانطلق من لحظتها إلى صنعاء، وما إن رآه والده حتى تهلل وجهه، وكان يعرف أنها ساعاته الأخيرة، فأعلم ابنه بما يجول في خاطره، فطبطب عليه وأشعره بالدفء، وما هي إلا أيام حتى غادر الحياة، وحضر تشييعه العلماء والكبراء، وسار في جنازته موكب مهيب، وأقيم الدرس عليه في جامع (الفليحي)؛ الجامع الذي كان يقيم فيه درسه، ورثاه الإمام يحيى وولي عهده، كما رثاه الزبيري في قصيدة جاء فيها:

وأقبل العيد أعمى غار ناظره

كأنما اللحد في عينيه محفور

بعد فشل ثورة الدستور عام ١٩٤٨م زُجّ بجميع الثوار إلى السجون وجزّ الإمام رؤوس كثير منهم، حتى إخوته نصبت لهم المشانق وأعدموا، أما الإرياني فقد كان بوسعه الهرب إلى خارج البلاد إلا أنه عزّ عليه ألا يتجاوز عمر الثورة سبعة وعشرون يوماً وآثر الصمود في ثغره إلى أن قبض عليه، وسيق إلى السجن في حجة مشياً على الأقدام، مكبلاً بالأغلال، وقد توقف بهم الجند في الطريق بمنطقة (السياني) القريبة من مدينة تعز لقضاء الليل، وفي الصباح جاء الناس لأداء صلاة الفجر وفوجئوا بهم وهم في تلك الحالة على زاوية المسجد، وكانت معالم الحزن والتأثر بادية على وجوههم، وقد عرفهم صاحب القهوة الذي ينزل المسافرون في بيته فانفجر باكياً بصوت مسموع في موقف مؤثر، وزجره أحد الجنود حتى يمضي في طريقه.

وفي ليلة من ليالي السجن في الذكرى الثانية على فشل الثورة دار الحديث بين الثوار الأحرار حول الخطبة الرنانة التي ألقاها الأستاذ نعمان ممجداً فيها الإمام أحمد، وشاكراً له عفوه عنه، وإطلاق سراحه، وانتقد البعض ما قام به من التزلف للإمام على حساب المبادئ، ودافع الإرياني عنه قائلاً: إن الخطبة هي ما اقتضاه المقام وطابقه الحال، وأنّا كنّا فعلنا ذات الأمر لو وقفنا موقفه، فنحن بين يدي طاغيه، وما تزال حيثيات الحكم علينا بالإعدام قائمة، والأستاذ نعمان معذور فيما قال.

وكانت تثار في السجن مختلف القضايا الثقافية والسياسية ويدور النقاش حولها وقد تجاوز النقاش الشفهي إلى إدارة مناقشات مكتوبة يعرض كل واحد رأيه ويعرضها على الآخرين لإبداء آرائهم، واحتفظ الأستاذ محمد نعمان ببعض من ذلك ونشره تحت عنوان "من وراء الأسوار"

وذات مرة أرسل أحد السجناء وشاية إلى الإمام أحمد بلغته عن طريق الأستاذ نعمان الذي أفرج عنه مسبقاً، مفادها أنهم يدعون إلى القحطانية ضد العدنانية والكفر بالإمامة وغيرها من الأمور، وغضب الإرياني على إثر ذلك غضبة شديدة، وأرسل إلى الإمام رسالة عظيمة في نبذ ما سماه ب"العصبية العنصرية"، ورَفْض جرجرة القضية إلى غير وجهها من مذهبية أو طائفية أو قبلية، عبّر فيها عن موقف مبدأي رصين غير ما كان فيها من بعض ما يمكن تفهمه من حالة الخنوع المبررة، وجاء في تعليقه عليها "قد كان يخطر في البال أن يقول قائل عني بأني ممن يرغب في دخول البلاد في الوضع الإصلاحي في عهده أو نحو ذلك، ولكني ما تصورت في يوم من الأيام أن يقول قائل إني أوصي بدعوة الجاهلية وأستجيز تفريق الجماعة أو أنحرف في عقيدتي عن الجادة، وإني أرى هذه الفكرة من السخف بحيث أخجل أن أحدث بها نفسي فضلاً أن أشافه بها غيري"، وكذلك كان رده على البيضاني في حرف مسار القضية، وانسياقه خلف مفاصلة الشعب وتهييج المذهبية بعد فتح المجال له في عدد من المجلات لكتابة المقالات التي تذاع من صوت العرب بعد الثورة.

وأجدني معجب جداً بقيم هذا الرجل الفريد، ويذهلني تناوله للأحداث ونظرته للأمور، ولكأنك ترى اليمن الكبير فيه، وترى من خلاله اليمن، استطاع وهو في ذروة نضاله أن يتمسك بقيمه وأخلاقه حتى النهاية، وتجاوز ضيق العواطف التي تعصف بالإنسان فتجعله يسقط في هوى نفسه، وارتقى بفكره وسلوكه حتى صار تلك الشخصية الجامعة، التي يقف لها الجميع احتراماً واكباراً، كل ذلك بنفس عزيزة أبية لا ترضى بالذل ولا الهوان.

كانت مرحلة السجن تمثل لحظة مهمة وفارقة في عمر الإرياني رغم حجم السوء الذي لاقاه وتعرض له فيه، فقد كان يقبع خلف جدران سجن حجة الكثير من علماء اليمن وأدباءها ومثقفيها، أسهم ذلك في تحول السجن إلى مرتع للنشاط الفكري والأدبي، وتحول إلى مدرسة نبغ فيها الكثير، وقالوا الشعر الجيد، وأنتج خلالها القاضي عبدالله الشماحي والأستاذان أحمد المعلمي ومحمد الفسيل كتيابات في التاريخ، ونظم الإرياني قصيدة تزيد عن ألف بيت لم يَسْلَم منها إلا النصف، شرح فيها مجريات الحياة في السجن، وقام أيضاً بالتعاون مع الأستاذ المعلمي بالتعليق على ديوان عمارة اليمني، وحقق برفقة القاضي الأغبري ديوان الآنسي، وهو من أفضل ما قيل في الشعر الحميني باللهجة الصنعانية الدارجة، وقد أهدوه إلى الإمام فأمر بطبعه على نفقة الدولة، وألف كتاباً نشر باسم "الشريعة المتوكلية في اليمن".

وقرأ خلال هذه المدة التي استغرقت ما يقارب الست سنوات مرمياً خلف القضبان مجموعة كبيرة وقيمة من الكتب حسب الاستطاعة، وتوفر الكتاب، وإمكانية دخوله إلى السجن، منها تفسير المنار وتفسير البيضاوي، وبعض أجزاء الإكليل، وكتباً أخرى في السياسة والتاريخ.

ومما يستعجب القارئ لمذكراته حرصه الشديد على أهله وذويه، فتراه في رسائله يدقق السؤال على أحوالهم ومعرفة تفاصيل يومهم، فإذا بلغه ما لا يرضاه عنهم أرسل إليهم معاتباً نصوحاً، وإذا وصله خيرهم بارك وفرح لهم، وما يفتأ عن السؤال عن الأولاد بأسمائهم، وتوجيههم للدراسة، ورغبته في إرسال بعضهم للدراسة في الخارج، وأرسل إليهم مرة كتاباً وضع لهم فيه جدولة لمجموعة من الكتب التي ينبغي الاهتمام بها ومطالعتها كان بينها كتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون، وكتاب "تاريخ حضرموت"، وكتاب "على هامش السيرة" لطه حسين، هذا وقد نزل به البلاء وزجّ في قفص مظلم، وغيّب عن اللحظة، فتوقف لديه الزمان إلا من أربعة جدران تذكره كل يوم بحريته المسلوبة.

تركت الأحداث التي انتهت إليها ثورة ١٩٤٨م وطأتها على فكر الإرياني، فَفَشل الثورة أودى بحياة خيرة رجال اليمن، وساقت البقية إلى السجون، لذلك كان بعدها يبدي تحوطاً وحذراً وتوجساً وحسباناً للأمور أكبر مما كان عليه من قبل، وكان سبباً لتردده في المشاركة في أحداث حركة الثلايا سنة ١٩٥٥م التي فشلت أيضاً، ومَثَل للإعدام أكثر من مرة، ورمي في السجن رغم أنه لم يتورط فيها بصورة مباشرة، وكلفه الإمام أحمد بكتابة كتيب يلخص فيها أحداث "الانقلاب"، وتردد كذلك في ثورة سبتمبر ١٩٦٢م إلا أنها نجحت، وسمع صوت الأستاذ محمد الفسيل مجلجلاً في إذاعة صنعاء بإعلان الجمهورية.

كانت هذه سياحة سريعة في مذكرات القاضي الرئيس الإرياني توقفتُ فيها حيث توقفَتْ، حاولت من خلالها رسم معالم شخصيته، والمدخلات التي صنعته، وتحدثت عن نشأته، وأبرز محطات حياته الثقافية والفكرية.

مقالات الكاتب