سؤال الهوية في التاريخ والجغرافيا
في ظل الصراع على السلطة في اليمن، وتقاطع المصالح الدولية والإقليمية، يتم تغييب المصالح العليا للبلد، المصالح والتطلعات والآمال التي عقدها عموم الشعب على حكومة الثورة والجمهورية، وحملتها طليعة هذا الشعب من رواد الحركة الوطنية اليمنية في تاريخنا الحديث والمعاصر- من مطلع القرن العشرين على الأقل.
ولأنها لم تتجذر قيم الديمقراطية وروح الجمهورية، تضاءل تأثير ودور الإرادة الشعبية في تحديد هوية السلطة، وتعاظم في المقابل التأثير الخارجي في استقطاب قوى النفوذ الداخلي من اجل الاستحواذ على السلطة والثروة معا، وتكاثرت العصبيات الضيقة كالفطر في جسد الأمة على امتداد الوطن مطايا لجحافل الفيد من طلاب السلطة سعياً لاحتكار قرار الأمة ومصادرة إرادة الشعب.
في مؤتمر الحوار الوطني الشامل -صنعاء 2013 - توارت هذه العصبيات خلف مظلوميات جهوية وفئوية، لكنها عجزت عن التعبير عن نفسها عارية بعيداً عن مفهوم الأمة والهوية الوطنية الجامعة لكل اليمن. لأن مخرجات الحوار الوطني ستعرض على الشعب أولاً ومرهون تمريرها بالإرادة الشعبية والاستفتاء العام. وهكذا عجلت القوى المتربصة بالانقلاب عليها، في محاولة يائسة لمصادرة الإرادة الشعبية ورهن مستقبل اليمن بصفقات قوى النفوذ الداخلي والقوى الخارجية المرتبطة بها.
أبناء المحافظات الشرقية من اليمن (حضرموت والمهرة وسقطرى وشبوه) كانوا المبادرين من بين كل القوى السياسية والاجتماعية المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، بطرح صيغة الدولة الاتحادية من خلال توافقهم حول إقليم فيدرالي يضم المحافظات الأربع ضمن دولة يمنية اتحادية. وأصبحت هذه الصيغة التوافقية أحد أهم مخرجات الحوار الوطني ومسودة الدستور الاتحادي الجديد.
بفعل الحرب التي أشعلها الرافضون للاحتكام للإرادة الشعبية المنقلبون على التوافق اليمني في وثيقة الحوار الوطني، اختل توازن القوى الوطنية الحاملة للمشروع السياسي الذي خرج به اليمنيون من مؤتمر الحوار الوطني كحل سلمي للأزمة ووقف الحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية الضارة بوحدة وسيادة اليمن وجمهوريته الفتية. وظهر الصف الوطني المناوئ للانقلاب الحوثي تياراً عاماً من قوى سياسية واجتماعية وتشكيلات عسكرية غير متجانسة في موقفها من مشروع الدولة الاتحادية ومخرجات الحوار الوطني، يجمعها رفض الانقلاب الحوثي ومقاومته، ويفرقها غياب المشروع السياسي الموحد لما بعد إسقاط الإنقلاب، وإن كان موقف الحكومة الشرعية بقيادة الرئيس هادي أكثر وضوحاً كعنوان لهذا المشروع الوطني، إلا أن هذا الموقف لم يستمر بنفس الوضوح مع تطاول أمد الحرب وتفاقم الخلاف حول المرئيات السياسية لما بعد الحرب وإحلال السلام في اليمن.
مع تزايد الحديث حول خارطة الطريق وانطلاق مباحثات السلام عاد أبناء المحافظات الشرقية ليذكروا اليمنيين والدول الراعية لعملية السلام في اليمن بمشروع الحوار الوطني وتمسكهم به في ظل فشل خيارات الغلبة وفرض الحلول السياسية بالقوة. كمشروع جامع ومتوافق عليه في وثيقة وطنية حظيت بقبول محلي وتأييد إقليمي ودولي.
وإذا كنا -محليا وإقليميا ودوليا- معنيين بتحقيق وإنجاز سلام دائم وعادل، فالدوام منوط باستمرار رضا الشعب، والعدالة مرتبطة بتحقيق تطلعات وآمال الشعب. اما القوة العسكرية الغاشمة فغير مؤهلة لتحقيق العدالة أو حراسة السلام الدائم.
إن مصادرة الراي وتغييب الإرادة الشعبية، وضع شاذ تفرضه قوى عصبوية ضيقة مناطقية أو سلالية. لن يُكسر هذا الوضع الشاذ إلا بتيار وطني عريض ينسف المقولات النمطية للمليشيا بتمثيلها السياسي للشعب في مناطق نفوذها وسطوتها العسكرية. ويكشف حقيقة مشاريعها العارية من أي غطاء سياسي يمثل مصلحة وطنية فوق مصالحها الضيقة.
ومن خلال تمسك أبناء المحافظات الشرقية اليوم بمشروع الدولة الاتحادية فذلك مدخل واسع لعودة كل أبناء اليمن من كل الأقاليم لمراجعة المواقف وجرد حساب الأرباح والخسائر.
فمن الناحية الدستورية:
التمسك بإقليم (المحافظات الشرقية) هو استحقاق سياسي ناله أبناء الإقليم بنضال سياسي - عابر لكل الأحزاب والمكونات السياسية والاجتماعية- وتوافق وطني في مخرجات الحوار الوطني.. وكانت طليعة هذا المشروع (هم أبنا المحافظات الأربع الأعضاء في مؤتمر الحوار الوطني) فهو حق لا يمُن طرف سياسي أو حزبي أو جهوي عليهم فيه.. أو يدعي أنه منحهم إياه منحة منه.
هذا الاستحقاق السياسي أيضا فتح الباب لأبناء الأقاليم الأخرى في أخذ حقوقهم ورفع مظالمهم.. وأصبح مشروعنا الاتحادي الذي انبثق من أروقة مؤتمر الحوار الوطني.. بذرة المشروع السياسي الوطني حول الخروج بصيغة وطنية لشكل الدولة في اليمن. نحو دولة اتحادية تنهي مراكز القطبية الثنائية التي تستثمر في القضايا السياسية بنفس مناطقي وعصبوي ضيق.
ومن الناحية السياسية يتكئ مشروع إقليم المحافظات الشرقية على خلفية تاريخية وسياسية واجتماعية واقتصادية وجيوسياسية.. تجعل من حركته في القضية اليمنية رافعة سياسية ذات تأثير سياسي يضاهي وينافس تأثير مراكز النفوذ الجهوية في صنعاء أو عدن في جنوب اليمن أو شماله.
صحيح أن حضرموت إقليم من ستة أقاليم يمنية، لكن ثقله السياسي والاقتصادي وظهوره الحضاري.. أكبر في المعادلة السياسية.. وإذا قلنا إن هذا الإقليم ثلثا اليمن جغرافياً بقاعدة جيوسياسية كبيرة.. فلن نحيد عن الواقع. لكن ظروف -أهمها تهميش الشرق من قبل صنعاء وعدن سابقاً - حالت دون أن يأخذ هذا الإقليم موقعه المستحق في معادلة السلطة والثروة في الدولة اليمنية جنوباً وشمالاً ودولة الوحدة.
وعندما نقول إننا ند للشمال والجنوب.. لا نبتعد كثيراً عن الواقع (سياسيا) فلا دولة يمنية بدوننا. ولسنا تكملة ملحقة بدولة في صنعاء أو في عدن..
وأثبتت الأحداث أن اليمن شمالا وجنوبا.. يجب أن يعترف أنه ناقص بدون الشرق والغرب.
فلكل بلاد أبعاد أربعة في الجغرافيا. فكيف إذا كانت هذه الجهة الشرقية جغرافياً لديها مقومات أخرى تجعل من حضورها الجهوي أكثر ظهورا وتأثيرا في مقابل أخواتها من الجهات الأخرى.
إن هذا المشروع يتكئ على وثيقة وطنية.. وتوافق في المحافظات الشرقية حول التمسك بها - مع الاحتفاظ بحقنا في حماية مصالحنا عند مناقشة مسودة الدستور الاتحادي - وهذا المشروع الشرقي أكبر ركائزه.. (الوعي) لدى حامليه أولاً، ونحن في المجلس الموحد للمحافظات الشرقية منهم.. ولسنا جميعهم- هناك مكونات وشخصيات في الإقليم مع مخرجات الحوار من غيرنا - ووعينا بعدالة قضيتنا.. يستند لحيثيات ومفاهيم أساسية منها:
- أننا يمنيون أولا.. نعتز باليمن الكبير ونحن جزء (مهم) منه. لكنا نرفض الوصاية أو التبعية.. ونحترم الشراكة الندية والمتكافئة في ظل تكامل وطني يجعل التنوع داخل اليمن قوة وليس ضعفاً.
- أن لنا خصوصية ثقافية، وممكن نسميها (هوية فرعية) تجوزاً.. هوية شكلتها ثقافة اجتماعية وتاريخ ونضال مشترك.. وحتى داخلنا نحن ثقافات وتنوع لا ننكره بين المحافظات وحتى داخل المحافظة الواحدة. كعادات وتقاليد واعراف لكل مجتمع.
وكل هذا التنوع قد كفلته واحترمته مخرجات الحوار الوطني. ونص عليها في مسودة الدستور الاتحادي.
- أن مخرجات الحوار الوطني الشامل قد أفضت لاستحقاقات سياسية نتمسك بها في إقليم محافظاتنا الأربع .. لكن هذه المخرجات جاءت في سياق حل شامل لقضية اليمن وتحديد مصير وشكل الدولة اليمنية.
وبالتالي لن نشكل نحن وحدنا حلاً لقضية اليمن.. إلا بتوافقنا وتكاملنا مع بقية اليمنيين في الأقاليم الأخرى (المؤمنين بمخرجات الحوار وحل الدولة الفيدرالية التي سنكون فيها إقليماً بذاتنا) وهذه قضية مهمة لا يمكن إغفالها.
- عندما يلتفت بعضنا لما سبق مخرجات الحوار الوطني من تجاذبات ومطالبات يدرك أن كل تلك المطالب قد نوقشت في محفل عام لكل اليمنيين.. وأفضى ذلك النقاش لما نحن بصدد تنفيذه اليوم.. من التزام بدولة اتحادية من ستة أقاليم.
- الحديث اليوم عن الهوية الوطنية الجامعة هو بالتأكيد عن اليمن والهوية اليمنية التي نعتز بها. ما دون ذلك قد نسميه هويات فرعية أو ثقافات محلية تُحترم في ظل التنوع الإيجابي البناء وليس العصبيات الهدامة.
- من يتحدثون اليوم منا أو من غيرنا حول هوية الدولتين السابقتين في الشطرين. يدركون أنها لم تكن إلا هوية واحدة.. لشعب واحد حُكِم بنظامين سياسيين في صنعاء وعدن لمدة ٢٣عام.. ثم توحد النظامان سلميا في دولة واحدة عام ٩٠م إلى اليوم.
وعلى هذا الأساس إذا كانت دولتا الشطرين على مدى عقدين من الحكم المنفرد لكل دولة شطرية لم يدعيا هوية خاصة بكل شطر. فلا محل لهوية (جهوية) - تتكئ على تاريخ الدولتين السابقتين - يحاول البعض تشكيلها اليوم للشمال أو للجنوب على السواء.
والحديث عن هويات أو ثقافات فرعية لكل من صنعاء وتهامة وعدن ولحج وحضرموت والمهرة.. فذلك معروف ومتداول على مستوى اليمن وخارجه ولا مشكلة فيه.. يقال الغناء الصنعاني واللحجي والدان الحضرمي. الخ.. ولهجات تهامة وأبين.. ولغات سقطرى والمهرة.
كل ذلك (التنوع الثقافي) كان قبل قيام الدولة اليمنية الحديثة واستمر معها وسيبقى بها او بدونها.
- يبقى سؤال إجابته من التاريخ والجغرافيا معا.
هل نحن في المحافظات الأربع جنوبيون أو شرقيون في اليمن؟
لا شك أننا كنا ضمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي كانت تحكم مجموع (أراضي مستعمرة عدن وسلطنات المحميتين الغربية والشرقية وجزر البحر العربي والمحيط الهندي والبحر الاحمر).
وللأمانة التاريخية إننا في المحمية الشرقية - المحافظات الأربع اليوم - كنا نرى اليمن صنعاء وعدن وما حولهما.. ونقول عنهم "يمنيون" أو "يمانية". وحتى في مهاجرنا هناك تمييز سياسي بيننا وبين اليمنيين وحتى بيننا نحن كرعايا السلطنات الشرقية.. فيقال حضرمي ومهري.
ولكنا أيضا كنا نحمل جوازات كلٍ من حكومة عدن أو حكومة صنعاء حينها - قبل الثورتين - وبعد الثورة استمر أبناء هذه المحافظات بحمل جوازات صنعاء أو عدن لتسيير أعمالهم وفقاً لنظم الهجرة والإقامة في دول المهجر التي يتواجدون فيها تبعاً للتسهيلات التي تُمنح لرعايا حكومة صنعاء دون حكومة عدن -دول الخليج العربي مثلاً - أو العكس.
فهناك شعور عام أننا أبناء وطن واحد ولم تكن توجد حساسية الحدود السياسية بين الشعوب كما هي اليوم.
وهذا الشعور العام بالانتماء لوطن واحد كان ركيزة أساسية من ركائز نضال الحركة الوطنية اليمنية في عدن وبشكل خاص تنظيم الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن في نضالها التحرري من الاستعمار وتوحيد كل هذه الأراضي الشاسعة في دولة وطنية واحدة عام ٦٧.
فنحن في شرق اليمن كنا ضمن دولة يمنية من باب المندب إلى صرفيت.
وهذا تاريخ نظام سياسي قام في جزء من اليمن لا ننكره، بل نعتز بإنجازاته التنموية وبالوحدة السياسية التي أقامها على كل هذا الامتداد الشاسع من اليمن.
لكنا لم نكن ضمن هوية جهوية جديدة اسمها الهوية الجنوبية أو الجنوب العربي كما يحاول البعض اعتساف التاريخ لإثباتها.
كنا ولا زلنا يمنيين في شرق اليمن حسب الجغرافيا.. وتبعيتنا لحكومة عدن كانت تبعية مواطنين لنظام سياسي لم يعد قائما اليوم.
وقول البعض اليوم إنه جنوبي، يقابله قول الآخر إنه قعيطي أو كثيري أو واحدي، فكلها نظم سياسية وحكومات قامت ثم دالت وبقي الشعب محتفظاً بهويته الوطنية وثقافته الاجتماعية وعلاقة الأخوة والجوار بسائر أقاليم اليمن ودول الجوار الشقيقة في السعودية وعمان.
فنظام الحكم السياسي الذي كان في جنوب اليمن قبل ٩٠. مصيره مصير نظم الحكم السياسية التي كانت في المكلا وبئر علي وقشن وسيئون وبيحان ونصاب وزنجبار ولحج ومستعمرة عدن، قبل ٣٠ نوفمبر ٦٧.