صفحات مجهولة من تاريخ الجنوب

تاريخنا خطته رجل كرسي الحاكم ، ولم تدوّنه الأقلام ، فقد كتبه المتزلفون والمتملقون الذين كانوا يحومون حول رجال السلطة كما يحوم الذباب على مقالب القمامة ، فلم تخط أقلام المؤرخين  صفحة واحدة ، ولم يدوِّن الباحثون سفرا ، وكل ما كتبه المتزلفون والمتملقون زيفا وكذبا لا تطمئن له نفس ، ولا يقره عقل  ، ولايستند إلى حقيقة ، ولا يثبته منطق ، ولا يتوافق مع وقائع الأحداث .

 بعد أكثر من خمس وخمسين عاما من عمر الثورة لن تجد  كتابا واحدا ، حاول فيه مؤرخ من المؤرخين أن يكتب شيئا عن ثورة 14 أكتوبر بحيادية ومهنية وتجرد ، ولم نجد أي محاولة جادة من الذين صنعوا أحداث الثورة ، كما لم توثّق عنهم  شهاداتهم البتة ، أما الفئة الأولى فلم يسمح لها بكتابة شيئا عن الثورة بسبب الصوت الواحد الذي كان سائدا في الجنوب ، وتسلط رجال العهد الجديد على كل شيئ ، ولم يتركوا الفرصة لمن خالفهم حتى أن يدلي برأيه ، لأن الحقيقة تعني إخراجهم من السلطة ، التي كانت في نظرهم استحقاقا لهم مقابل نضالهم وتضحياتهم .

أما النوع الثاني لم يكتبوا شيئا عن تاريخ الثورة ، ولم يدلوا بشهاداتهم  ، ولم يوثقوها بأي صورة كانت ، بسبب ضعف مستواهم العلمي الذي لايؤهلهم لكتابة تاريخ مرحلة تعج بالتعقيد والصراع  ، وكذا ضعف الوسائل المتاحة حينها حتى انقرض هذا الجيل الذي كان جزءا من تلك الحقبة  ، وشاهدا على عصرها ، وكذا سرعة انقراض هذا الجيل بسبب التصفيات التي شهدها عهد الرفاق الذي استمر  قرابة 24 سنة، فلم يلحق  الباحثون بهم ؛ حتى يسمعوا شهاداتهم ، ويدونوا  أقوالهم ، لجمعها ، و كتابتها ، ومقابلتها ، ومحاكمتها محاكمة موضوعية علمية .

الجنوبيون لايعرفون من تاريخهم شيئا ، لأنهم لم يجتهدوا في بحثه ولا قرأته على المستوى الشخصي ، ولم يتلقوا منه شيئا  ذا قيمة  على المستوى الرسمي في مناهج مابعد الثورة ، وكل ما تلقته الأجيال عبارة عن شعارات كاذبة ، ووقائع ملفقة ، كانت أقرب للخطاب الإعلامي الموجه منها إلى  التاريخ ، لذا تجد في أوساط الجنوبيين ما يشبه الأمية التاريخية على مستوى النخب ، التي أشك في وجودها لعدم وجود  الامتداد المعرفي لها في المجتمع ،

لذا تجد الكثيرين ممن يحسبون على النخبة السياسية يخلطون بين الجنوب العربي وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، فتراه متوشحا بعلم جمهوريةاليمن الديمقراطية ؛ ويدعو لاستعادة الجنوب العربي ، بمحافظاته الست ، في حين  لايعلم  إن الجنوب العربي 23 كيانا سياسيا مابين مشيخة وسلطنة وإمارة وولاية ، دون مستعمرة عدن وحضرموت والمهرة وسقطرى .

 لايزال السواد الأعظم من الجنوبيين يخلط  بين عدن كمستعمرة بريطانية ، وعدن كعاصمة لليمن الديمقراطي بعد الثورة ، حتى لتجد نتيجة لهذا الخلط التاريخي أن أكثر الجنوبيين يظنون إن عدن عاصمة تاريخية للجنوب .

لايعرف الكثيرون أن الجنوب العربي تسمية محدثة بالنسبة للوجود البريطاني قياسا بحقبة الاستعمار البريطاني الطويلة لعدن فقط وليس للجنوب بأكمله ، لأن سلاطين المحميات دخلوا في اتفاقيات الحماية البريطانية بالولاء والطاعة وفقا لاتفاقيات الحماية ، وليس باخضاعها عسكريا والسيطرة على أراضيها .

لايعرف الجنوبيون شيئا ذا قيمة عن ثورة أكتوبر ولا عن رجالها وقادتها الحقيقين ، سوى ما استقر في عقولهم من هرطقات إعلام الإشتراكي الكاذب ومناهجه المضللة .

لايعرف الجنوبيون من هم المناضلون ؟ نتيجة للخلط المتعمد  بين مفهموم المناضل والحاكم ، بسبب إصرار هؤلاء الحكام على وصف أنفسهم بالمناضلين ، وما أكثر القصص والمرويات الكاذبة التي كانوا يروونها عن أنفسهم في كل مناسبة ، على طريقة وزير إعلام النازية جوبلز أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس  .

عرف الجنوبيون الكثير من الحاكم والمسؤولين  الذين عاصروهم ، وسمعوا  عن الكثير من الحاكم والمسؤولين الذين لم يدركوهم ، لكنهم لم يروا المناضلين الحقيقين ، ولم يسمعوا بهم .

سمعوا عن قحطان كرئيس  ، وفيصل عبداللطف الشعبي كرئيس للوزراء ، ولم يسمعوا عنهما كمناضلين ، لأن الرفاق طمسوا كل شيئ ، ولو قُدِّر لهم أن يمسحوا اسماءهم من الذاكرة للفعلوا ، لكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك ، لاقتران اسم قحطان  وفيصل بالسلطة ،  ولو لم تقترن أسماؤهما بالسلطة لدفن الرفاق دورهما النضالي ؛ كما دفنوا دور الكثير من المناضلين من قادة الصف الأول الذين لم يصلوا إلى السلطة ، فمات هؤلاء مغمورين لايعرفهم أحد ، ولم تسمع بهم الأجيال لليوم ، في حين تجد صيت  سرَّاق النضال قد ملأ السمع والبصر .

لن تستيطع اقناع أحدا أن قحطان ،  وفيصل، وسيف الضالعي، والشاعري ، وحسين الجابري ، وناصر علوي السقاف أنهم كانوا قادة الصف الأول لتنظيم الجبهة القومية بسبب الطمس المتعمد لتاريخ هؤلاء وغيرهم  .

لن تستطيع اقناع أحدا ؛ من أبناء الجيل الحاضر أن  المجعلي كان  قائدا لجيش التحرير الذي قاتل في ردفان !  إلا أن الرفاق حين  طمسوا تاريخ جبهة التحرير بأكمله ، صار  هذا العار التاريخي حائلا دون أن تعرف الأجيال من هو المجعلي ؟ لن تستطيع إقناع أحدا بدور قطيب القبيلة التي كانت موئل للثورة بعد أن طُمس تاريخ الكثير من أعيانها ورجالاتها ، الذين لوسألت عنهم  لن تجد أحدا يعرفهم ، في ردفان نفسها ، في حين لو سألت أي جنوبي من هو أول هو شهيد في الثورة ؟ سيجيب إجإبة خاطئة قررتها في ذهنه مناهج الإشتراكي الكاذبة ،  واقنعه بها إعلامه المضلل !

لم يسمع عن الكثير من الانتفاضات القبلية ضد الاستعمار ، بعد أن حولت الجبهة القومية تاريخ الثورة إلى اقطاعيه خاصة بها ، فتضفي لقب مناضل على من تشاء ، وتمنعه عمَّن تشاء ، فصادرت تاريخ الفصائل الوطنية جميعا كجبهة التحرير ، والرابطة  وغيرها من النقابات العمالية في مستعمرة عدن ، وفروع هذه التنظيمات ومعها  المكونات القبلية في المحميات ، فلم يحفظ التاريخ شيئا لهؤلاء ، ولم يعلق بذاكرة الأجيال شيئا مما سطره المناضلون الحقيقون ، لأن أقلام كُتَّابه لم تولق في محابر الحقيقة ، فأخرج كتّابه تاريخا مشهوا ، قمط  كل التنظيمات السياسية  - بما فيها الجبهة القومية والمكونات القبلية  حقها ، فلم يسمع الكثير عن انتفاضة الجعري ، بل لايعرفون من هو محمد ناصر الجعري نفسه ، كما لم  يسمعوا عن قصف الطائرات البريطانية لمضارب قبيلة النخعين في قرى المسحال ، ولا مقاومتهم الشرسة التي قتل فيها قائد الحملة ، واستشهد عدد من رجال النخعين وأصيب آخرون ، كما لم يسمع الكثير عن انتفاضة الربيزي ، ولم يتحدث سرَّاق التاريخ عن إسقاط أحد أفراد هذه القبيلة طائرة بريطانية مقاتلة بندقيته القديمة ؛ التي لاتزال إطلالها باقية لليوم  تتحدَّى ما خطته آيادي نسَّاخ التاريخ المصنوع  .

     سعيد النخعي

القاهرة 15/أكتوبر/2018م

مقالات الكاتب