كي لا ننسى أهداف سبتمبر وأكتوبر (1)

 

قامت ثورتا 26 سبتمبر و 14 أكتوبر في وقت كانت فيه بريطانيا العظمى تستعد لتصفية مستعمراتها في العالم لصالح النظام الدولي الجديد الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية.

كانت بريطانيا تمهد لخروجها من جنوب اليمن بمشروع يكرس واقع التجزئة القائم، مع تأهيل كياناته الصغيرة (الامارات والسلطانات) للحصول على الاستقلال.

ذلك المشروع التجزيئي الذي سعت بريطانيا لتكريسه في جنوب اليمن هو امتداد طبيعي لمشروع التقسيم والتجزئة الذي بدأته مع فرنسا بسايكس بيكو في بلاد الشام، ثم أخذ طريقه إلى الخليج العربي والقرن الافريقي.

 في جنوب اليمن استقرت خطة الاستعمار البريطاني على إقامة كيان كونفدرالي يضم إمارات المحمية الغربية تحت اسم (اتحاد إمارات الجنوب العربي) وتم إعلانه عام 1959م، مع إبقاء سلطنات المهرة وحضرموت كدول مستقلة خارج الاتحاد، وفصل مستعمرة عدن (مدينة عدن) وجزر ميون وكمران وكوريا موريا عن محيطها العربي تمهيدا لمنحها حق تقرير المصير كدولة مستقلة متعددة الجنسيات ضمن أقاليم التاج البريطاني على غرار سنغافورة وجبل طارق وجزر فيجي.

قامت ثورة 14 اكتوبر عام 1963م ووضعت على رأس أهدافها إسقاط الحكم الانجلوسلاطيني، ونجحت في تحرير عدن وإسقاط جميع الإمارات والسلطنات، وأقامت على أنقاضها دولة وطنية مركزية واحدة هي (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) في 30 نوفمبر 1967م، وبذلك سقط مشروع التجزئة الاستعماري الذي أسماه الرئيس المصري جمال عبدالناصر: "الجنوب العربي المزيف".

أما في شمال اليمن فقد كان هدف بريطانيا -المنتصرة في الحرب العالمية الأولى- السيطرة على المناطق التي كانت تحت حكم العثمانيين، فقامت القوات البريطانية عام 1918م باحتلال الساحل التهامي وضمه لإمارة الادريسي، وحاولت ضم لواء تعز لمحميات عدن.

 لكن سرعة تسليم الوالي العثماني للمناطق التي كانت تحت يده وكافة عتاد الجيش العثماني للإمام يحيى حميد الدين ساعد الإمام في بناء جيش نظامي وإعلان المملكة المتوكلية اليمنية، واتخاذ مدينة تعز عاصمة لها، ثم تحرك غربا لاستعادة لواء الحديدة، وبذلك تعرقل المشروع البريطاني في فصل اليمن الأسفل عن الشمال الزيدي.

 رفض الإمام يحيى الاعتراف بالوجود البريطاني في جنوب اليمن، وتقدمت قواته باتجاه محميات عدن، فدخل في حرب مباشرة استخدمت فيها بريطانيا الطائرات لقصف تعز والمدن الأخرى، وانتهت الحرب بانسحاب قوات الإمام من محميات عدن، وتوقيع اتفاقية الاعتراف المتبادل بين بريطانيا والمملكة المتوكلية عام 1934م.

 لا ينكر أحد دور الإمام يحيى في مقاومة المشروع الاستعماري البريطاني، لكن الطبيعة العصبوية والعنصرية للنظام الإمامي ظلت هي نقطة الضعف التي استفادت منها الدوائر الاستعمارية في عدن لإثارة النزعات الانفصالية وسط أبناء المناطق الشافعية.

فقد حاولت بريطانيا حرف مسار الحركات المعارضة للإمام عن طابعها الوطني إلى طابع مذهبي مناطقي، من خلال شراء بعض العملاء وصولا الى تشجيع شخصيات قبلية من تهامة على المطالبة بتقرير المصير في الأمم المتحدة، لكن وعي قادة الحركة الوطنية أفشل كل تلك المحاولات.

 

 تفطنت المعارضة لقضية الوحدة الوطنية مبكرا، وعملت على بناء برامج وهياكل الثورة ضد الإمامة على أسس وطنية بعيدة عن الطائفية والجهوية، بدءا بحركة 1948 ووصولا الى ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي نجحت في إسقاط نظام الإمامة وإقامة دولة وطنية ونظام جمهوري.

 هذه الإنجازات العظيمة لثورتي سبتمبر وأكتوبر تجعلنا اليوم نقف بإكبار أمام ذلك الوعي القومي والوطني الذي تحلى به ثوار سبتمبر وأكتوبر الذين استطاعوا إجبار أكبر امبراطورية استعمارية في العالم على الرحيل دون أن تحقق أي من أهدافها التمزيقية لا شمالا ولا جنوبا.

 لو افترضنا أن المشروع الاستعماري البريطاني نجح في الجنوب في إقامة اتحاد الجنوب العربي وفصل المهرة وحضرموت عنه وضم عدن للتاج، ونجح في الشمال في فصل تعز وتهامة عن المملكة المتوكلية، لكان اليمن اليوم مجزءا الى سبع دويلات على الأقل؛ أربع في الجنوب، وثلاث في الشمال، ولن يستطيع المواطن اليمني التنقل بينها إلا بجواز سفر وفيزة وكفيل!

اليوم -وبعد أكثر من خمسة عقود من الزمن، وفي ظل الحرب الحالية وضعف الدولة- تحاول قوى ما قبل سبتمبر وأكتوبر، إعادة انتاج مشاريع الاستعمار القديمة بثياب جديدة تنسجم مع مشروع فوضى الخلاقة وخريطة الشرق الأوسط الجديد، الأمر الذي يفرض علينا إعادة قراءة تاريخ الثورة اليمنية؛ سبتمبر وأكتوبر واستلهام أهدافها، فالتشابه بين المرحلتين كبير، وكبير جدا.