الاقتراب من الحقيقة جسر من جسور التصالح مع الماضي..

نسيان الماضي جريمة لا يعاقب عليها القانون بل يعاقبك بها الحاضر،  وسيحظرك بها المستقبل ..

 

من أروع التجارب التي اطلعت عليها في( التصالح مع الماضي) والتعامل مع جرائم الديكتاتورية في الماضي هي تجربة ألمانيا الاتحادية، وهي البلد الأقرب إلينا شَبهاً من حيث توحد شطريه، واختلاف نظامهما،  لكننا الأبعد عنها نتيجة وأثرا..

حيث شكلت ألمانيا الاتحادية لجنة باسم( الحقيقة والمصالحة) لانهاء أي صراع قد ينشأ في المستقبل سببه صراعات الماضي، وشكلت الدولة الاتحادية ( بعد دمج الالمانيتين) الهيئة الاتحادية لملفات أمن الدولة في 1992م، حيث تم الاحتفاظ بهذه الملفات التي تحتوي على مليارات التقارير و100 كيلومتر من الملفات الأمنية التي كتبها المخبرون لأعمال المراقبة والقمع للمواطنين المعارضين في المانيا الشرقية في عهد النازية، حيث سمحت الدولة للمواطنين بالاطلاع على هذه الملفات لمعرفة الحقيقة للسير نحو المصالحة، حيث  رأى الألمان ألا مصالحة دون معرفة الحقيقة، وملفات أمن الدولة كانت نتيجة لانعدام ثقة الدولة بالمواطن كما يقولون، و( لجنة الحقيقة والمصالحة) أرادت أن تعيد هذه الثقة بين الدولة والمواطن.

 

تقدم 3 مليون و نصف مواطن بطلب فتح ملف،  وكانت السلطات تخشى وقوع موجة عنف وغضب من أهالي الضحايا بعد معرفتهم الحقيقة، لكن أكثر مافعلوه - كما أخبر المفوض الاتحادي لسجلات أمن الدولة- أنهم بكوا بدلاً من أن يغضبوا.

 

يقول يواخيم غاوك (  رئيس ألمانيا الاتحادية) :

" التصالح بالاعتماد على مبدأ( لم يكن كل شيء سيئا) لن ينجح؛  ولهذا تُنصح المجتمعات بإتاحة فرصة للاقتراب من الحقيقة".

 

- هل ننسى أم نتذكر؟!  سؤال يتكرر في المجتمعات التي عاشت ماضيا مثقلا بالصراعات، فالنسيان قد يُعرض ( الذاكرة الجماعية للمجتمع) أن تكرر نفس الأسباب التي أدت إلى هذه الصراعات،  والتذكر قد يحيي الضغائن والاحقاد والصراعات مرة أخرى..!!

 

لكن الألمان اختاروا طريقهم وفق مقولة " لتبرأ الجراح يتعيّن أن تُنكـأ أولاً"..

 

هناك خلط يتعمده البعض بين الحقيقة والمصالحة،  فمَن يصرون اليوم على عدم تذكر ماضي الاستبداد بحجة التصالح مع الماضي ويتم مع هذا التصالح دفن الحقائق أو التلاعب بها؛ فاعلم ان هذا التصالح لتسوية أرض المدرج الذي سيقلع منه  مشروع استبداد قادم..

 

تجربة أخرى ناجحة في القارة السمراء في النضال ضد النسيان  أو نضال الحرية ضد الدكتاتورية، فقد حوّلت الدولة  في جنوب افريقيا، السجن الموجود في جزيرة روبين الذي كان يُسجن فيه المعارضون ضد التمييز العنصري -  وهو السجن الذي سجن فيه نيلسون مانديلا- حولته إلى متحف ومكان للتذكر والتذكير يزوره السياح وزيارته إلزامية للطلاب لمعرفة تاريخ الاستبداد في بلدهم، وشكلت الحكومة في 1995م لجنة الحقيقة والمصالحة للاستماع للضحايا والمجرمين ومعرفة المعاناة..

 

فهل يتعيّن علينا في الجنوب واليمن قاطبة أن ننكأ الجراح ونقطع جسور تكرارها طالما الجراح لازالت موجودة وتتسع أكثر وأكثر،  أم نكتفي بالربط عليها بغطاء،  يُخفي عوارها وحقيقتها وإن فاحت نتانتها وانتقلت من مكان لآخر !!

 

وأخيراً... للذكرى:

"إن صراع الذاكرة ضد النسيان هو صراع الحرية ضد الدكتاتورية"  ميلان كنديرا

 

"الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً"  اينشتاين.

 

#سلامٌ_عليكم

#أفشواالسلامبينكم

مقالات الكاتب