بورترية
باسندوة.. رجل التوافق الذي لم يفهم اليمنيون دموعه
من شأن أي حديث أو كتابة عن دولة “محمد سالم باسندوة” رئيس الوزراء
اليمني السابق، أن يحفز الذاكرة لاسترجاع مشهد دموعه التي ذرفها على عتبات
“الحوار، الثورة، الحكومة”، وهي المنعطفات التي توافق اليمنيون فيها على
اختياره رُبّانًا لسفينة البلاد.
منذ أكثر من 50 عامًا، صمد المشروع الوطني لباسندوة في وجه الخصوم
ومطابخ الإشاعات، منذ أول منصب حكومي في الستينيات حتى رئاسته للحكومة في 2014..
يبدو الرجل غير متأثر ولا آبه بكل ما وجه ضده من إشاعات، لا حينها ولا حتى الآن، إذ لم يُخْفِ رغبته في العودة من دولة الإمارات العربية المتحدة التي يقيم فيها حاليًا، إلى رئاسة الحكومة مجددًا، في ظل الوضع الكارثي الذي تعيشه اليمن، مشترطًا “تنازل جميع الأطراف لفترة مؤقتة، يصحبها تسليم الميليشيات للسلاح ومنحه الصلاحيات الكاملة”؛ كما قال لـ”إرم نيوز”.
مفتاح خريطة المراحل المطالب بنفي صالح
تمثّل السيرة الذاتية لباسندوة الذي ولد في حي السبيل بكريتر في مدينة
عدن عام 1935، مفتاح خريطة المراحل التي مرت بها اليمن، سيما الجزء الشمالي منها،
إذ عاصر خمسة رؤساء، و7 حكومات، قبل الوحدة وبعدها، وتولى مناصب وزارية وحكومية
واستشارية هامة في معظم الحكومات، وليس من سوء حظّه تولّي تلك المناصب في أصعب
وأحلك الأوضاع؛ بل يراها كثيرون من أبرز نقاط قوته.
في حرب صيف 1994، كان وزير الخارجية محمد سالم باسندوة يقود ملف
العلاقات الدولية متصدرًا المشهد برمته.
وفي 2009 وصلت القوى السياسية في اليمن إلى وضع وشيك الانفجار مع
الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وحين اشتد البأس وأعلنت القوى عن مؤتمر
للتشاور ثم الحوار الوطني، لجأت إلى “باسندوة” كمعادل موضوعي لهيجان طرفي النزاع “صالح،
والمعارضة مجتمعة بما فيها مكوّن الحوثي” فكان رئيسًا لمؤتمر الحوار الوطني.
بعد أقل من عامين، اندلعت ثورة شبابية شعبية عارمة في وجه الرئيس صالح
2011، فحظى باسندوة أيضًا بإجماع قوى الثورة كافة، ليصبح هذه المرة وجهًا لوجه مع
الرئيس المطلوب خلعه من معظم قطاعات الشعب اليمني، حتى أن قياديًّا حزبيًّا رفيعًا
قال يومها، إن المجلس الوطني لقوى الثورة، انعقد ذلك اليوم “والأيدي على الرؤوس”،
في إشارة إلى توقعهم ردة فعل عنيفة من قبل صالح.
ومع ذلك، فقد رحب باسندوة باختيار الثوار له كرئيس لمجلس قوى الثورة
في لحظة مهيبة وفارقة من عمر الوطن.
كأمر نادر الحدوث، إلا في اليمن، توافق الطرف المعارض للثورة، وكذا الطرف الثائر، أن يكون باسندوة رئيسًا لحكومة الوفاق الوطني في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، كما قبل هو أيضًا خوض هذا التحدي برئاسة حكومة لم يشكّلها، بل فرضت أعضاءها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مناصفة بين اللقاء المشترك وشركائه، وحزب المؤتمر وحلفائه.
الدموع
في مهمة الوفاق، نجح باسندوة في إعطاء دروس مجانية في النزاهة
والوطنية في الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء، والحفاظ على تماسك البلد واستقرار
اقتصاده وثبات عملته، خصوصًا بعد التباين الذي أثارته فترة رئاسته لأول حكومة بعد
حقبة صالح.
تقف دموع الرئيس باسندوة على حافتي عينيه حين يتحدث عن الوطن، ويجهش
بحزنه مرارًا، غير عابئ بعدسات المصورين، أو انتقادات المشككين. لكن حين يتعلق
الأمر بمغادرة علي عبدالله صالح، يصرخ جاف العينين والقلب واللسان مطالبًا الرئيس
هادي غير ذات مرة، وممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن (خلال زيارتهم صنعاء مطلع
2013) بضرورة مغادرة صالح البلد ولو بشكل مؤقت.
كانت أشهر دموعه، حين قدم مذكرة الحكومة بشأن قانون الحصانة الكاملة
الذي مُنح لصالح، إلى مجلس البرلمان، وظهر مناشدًا أعضاء البرلمان بالتصويت لإقرار
القانون والتصدي لكل المحاولات التي تستهدف جرّ اليمن إلى الفتن والحروب.
لا يفصل منزل باسندوة “الفخم” في الحي السياسي بصنعاء، سوى بضعة أمتار
عن جاره اللدود علي عبدالله صالح، ويعيش
فيه دون حراسة مكثفة، ولا كاميرات مراقبة مع خمسة من أولاده أكبرهم خالد، فضّلوا
عدم المشي في الطريق الوعر الذي أمضى فيه والدهم ستة قرون من عمره وعلمه وخبرته
ونضاله.
وفي لمّ شمل العائلة والأبناء والبنات في منزل واحد، رسم باسندوة
لنفسه مسارًا لا حياد عنه، مفضلًا أن يحيط به أولاده وأحفاده، على كل مغريات
السلطة والنفوذ، مانحًا من وقته المساحة العائلية ذاتها، للقراءة والنهم المعرفي
والكتب الأدبية ويمتلك ذاكرة فولاذية – كما يقول رواد مجلسه – فيما يتعلق بالشعر
وخاصة قصائده التي جادت بها قريحته الشعرية من بين كل تلك الملفات غير الأدبية
التي تزاحمها.
يروي أحد الحاضرين في مجلسه ذات مرة أثناء ترأسه للحكومة، أنه رد على
مكالمة هاتفية من أحد الوزراء بقوله: “لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه.. عارٌ عليكَ
إذا فعلتَ عظيمُ”. فيما لم يتسنّ لنا الحصول على إحدى قصائده التي ربما تكشف جوانب
أخرى من شخصية رجل السياسة والاقتصاد والثورة والحوار والأدب والشعر.
الرجل الذي جلس على كرسي وزارة الإعلام، والخارجية، والتخطيط، والشؤون الاجتماعية والعمل، وعُيّن مرارًا في مجلس الشورى والاستشاري وعُيّن مستشارًا لرئيس الحكومة، ثم لرئيس الجمهورية، لا يجد حرجًا حين يسأله مذيع الجزيرة عدة أسئلة في مقابلة واحدة بقوله “لا أدري”!!. وحين يقول لا أدري فلأنه كذلك، وخصامه مع البراغماتية لا يمكن أن تخطئه العين، ولقد شهدت العلاقة بينه وبين الرئيس هادي مدًّا وجزرًا بيّنين لكل ذي عينين.
العلاقة مع هادي
ربما يكون “باسندوة” هو رئيس الحكومة الوحيد الذي لم تجمعه صورة
تلفزيونية مع رئيس الجمهورية طيلة فترة رئاسته لحكومة الوفاق.. فمِنْ قائلٍ: إنه
اتفق مع الرئيس هادي على صلاحيات مطلقة وعلى فصل تام بين السلطتين، على أن الأخير
لم يعمل بما اتفق به مع باسندوة، أو بما نصّت عليه المبادرة الخليجية “مشاركة
القرار مع الرئيس”.
وحسب هذا الرأي، فإن هادي وقع تحت ضغوطات أكبر من صديقه رئيس الحكومة
الذي يقتسم معه الشيب وصلعة الرأس وحلاقة الشوارب، وتاريخا طويلا من النضال الثوري
القومي اليساري، والهروب من سطوة حكام الجنوب واللجوء إلى شمال الوطن، وتولي
المناصب الحكومية، غير أن أحدهما مدني حتى النخاع والآخر عسكري حتى شغاف القلب.
تشكّلت حكومة “الوفاق الوطني”، في الوقت الذي كان فيه رئيس الحكومة
السابقة، علي مجوّر، لم يستكمل بعد ترتيبات الانتقال، فضّل باسندوة عدم استئجار
مبنى كما كان يُشار عليه، وعقد جلسات مجلس الوزراء بمنزله.
أغضبه الرئيس هادي، في 2014م، حين صرف مليون ريال يمني، إكرامية شهر
رمضان لكل فرد من أعضاء الحكومة ورجال الدولة، وأرسل الرئيس شيكًا بخمسة ملايين
لرئيس الحكومة عبر رئيس مصلحة الجمارك حينها، وزير المالية لاحقا محمد زمام.
اطلع عليه باسندوة، ثم سأل زمام: “ما هذه؟”، فأخبره أنها إكرامية من
الرئيس، تغيّر وجهه، ثم قال :”من حق من تُصرف هذه الأموال؟ هذه أموال عامة ولا
يحقّ للرئيس العبث بها هكذا”.. رفض المبلغ، ومزّق الشيك، ثم مضى يتمتم.
يجرّ أرجيلته (الشيشة) إلى كل مكان يذهب إليه، باستثناء الفترة الصباحية، ويبدو أكثر مرحًا عند بداية فترة القيلولة التي يفضّل قضاءها في ديوان منزله يتناول نبتة القات الشهيرة في اليمن، وسط لفيف من الأصدقاء والضيوف، ولا يكفّ عن الترحيب بهم بين كل فترة وأخرى.
سقوط صنعاء
عندما أسقط الحوثيون صنعاء، صمت الجميع وفتحت كل أجهزة الدولة أبوابها
أمام الميليشيات، ونطق باسندوة مفاجئًا الجميع بإعلان استقالته من رئاسة الوزراء،
معلّلًا ذلك بالشروط ذاتها التي اشترطها لعودته إلى الحكومة الآن.
وعقب أزيد من عامين على ترؤسه للحكومة، قال إن استقالته التي
قدمها إلى الشعب، تأتي انطلاقًا من حرصه على أن يتيح الفرصة لنفاذ أي اتفاق يتم
التوصل إليه بين أنصار الله (الحوثيين) والرئيس بأسرع ما يمكن، وكي لا يكون بقاؤه
في رئاسة الحكومة عائقًا، أمام تشكيل حكومة وطنية جديدة.
استولى الحوثيون على كل شيء، وكلّفوا لجنة مالية ورقابية بفحص أوراق
الصرف داخل مجلس الوزراء، في محاولة لتصيّد رئيس الحكومة، لكنهم فوجئوا بنزاهته
بعد عمليات تدقيق مضنية، فالرجل كان حريصًا للغاية في كل ما يتعلق بنظافة يده،
وكان يرفض اعتماد صرفياته ومخصصات سفره من حساب الدولة، رغم الامتيازات التي يحظى
بها كل رؤساء الحكومات المتعاقبة، بل لجأ إلى تقليص نثريات مجلس الوزراء إلى
النصف، وأعاد سيارته المصروفة له إلى الدولة، ودعا الجهاز المركزي للرقابة
والمحاسبة للحضور إلى مجلس الوزراء بهدف التأكد من أي حالة فساد فيه.
بدايات النضال
يؤمن الرجل الذي وصف نفسه ذات يوم بصوت عال تحت قبة البرلمان
بـ”القوي”، أن القضية الجنوبية ناجمة عن السياسات الخاطئة والممارسات السيئة
والاستعلائية التي اتبعها نظام صالح تجاه الجنوب، وكان ينظر إلى مخرجات مؤتمر
الحوار الوطني كحل لمعالجتها، ويدرك أن المهمة ليست سهلة إطلاقًا، وكما كان يردّد
“نحن نراهن على الأفعال وليس فقط تكرار الأقوال”.
بدأ نضاله ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، منذ فترة شبابه، حين
استطاع أن يصدر صحيفتي “النور” و”الحقيقة” الأسبوعيتين من عدن، قبل أن يوقفهما
الاحتلال، وتوهجت مرحلة النضال عند قيام ثورة الـ 14 من أكتوبر عام 1963، حيث
اعتقله البريطانيون مرتين، كانت الأولى في 1962، والثانية تلتها ببضع سنوات، ونُفي
مرة إلى أرتيريا.
كان الرجل عضوًا في الهيئة العليا لحزب الشعب الاشتراكي في الجنوب،
إلى جانب عضويته في قيادة جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، منذ تأسيسها في 1966م،
وأشرف على تنظيم الفدائيين فيها من الجزء الشمالي من البلاد وتحديدًا تعزّ، التي
نزح إليها مطلع أكتوبر 1965م بعد أن أصبح أحد قيادات “الكفاح المسلح”.
في إبريل عام 2014، أثار موجة من السخط بطبيعته غير المتحفّظة، حين
عبّر عن أسفه للحالة التي وصلت إليها مدينته عدن، وبدا نادمًا على جلاء الاحتلال
البريطاني، وقال :”أشعر أحيانًا بالأسى، وأننا اخطأنا ربما.. لو بقي الاستعمار
لربما كانت عدن اليوم تفوقت على دبي”.
وعقب مغادرة الاستعمار البريطاني جنوب اليمن في 1967، آثر باسندوة
المغادرة إلى صنعاء، هربًا من الصراع الدامي الذي نشأ عقب الاستقلال، بين رفاق
النضال في عدن.
قال قديمًا عن شريكي الوحدة اليمنية، حزبي المؤتمر الشعبي والاشتراكي،
إن “اتفاقهما خطر على الديمقراطية، واختلافهما خطر على الوحدة”، وحينما سُئل
عن ذلك بعد اندلاع حرب 1994 بين الشريكين، قال: “لقد خرّبا الاثنتين معًا”.
وحين سُئل العم سنان الإدريسي صاحب بوفية في صنعاء عن باسندوة أجاب
بكل بساطة: “باسندوة شيخ مُحكّم بين قبيليتن”.