قراءة استراتيجية في الضربة الإسرائيلية الكبرى ضد إيران

مانشيت _ كتب: عبدالعزيز الحمزة

تمهيد: لحظة مفصلية في ميزان الشرق الأوسط

الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع حساسة في العمق الإيراني اليوم، الجمعة الثالث عشر من يونيو، ليست مجرد عملية تكتيكية عابرة، بل هي مؤشر على تحول استراتيجي في تعاطي تل أبيب وواشنطن مع الدور الإيراني في المنطقة. إن ما يجري اليوم ليس وليد لحظة، بل تتويج لتراكمات ممتدة، ولصراع طويل جرى فيه توظيف إيران تارة، وكبحها تارة أخرى، حتى بلغ الأمر مرحلة الاصطدام المباشر.


---

أولًا: الدور الإيراني بوصفه “عصا غليظة” لأمريكا في الشرق الأوسط

منذ الثورة الخمينية عام 1979، كان الدور الإيراني يراوح بين العداء العلني لأمريكا و"التعاون الضمني" معها. في الحقيقة، شكّلت إيران – عبر أدواتها المذهبية والميليشياوية – عامل ضغط دائم على أنظمة الخليج ومحيطها السني، بما يخدم استراتيجيات واشنطن في إبقاء المنطقة في حالة استنزاف أمني وسياسي، تُستدعى فيه "الحماية الأمريكية" كخيار لا بديل له.

لم يكن ذلك من باب التخطيط المشترك، بل من باب توظيف الفوضى لصالح الهيمنة. غضّت أمريكا الطرف عن تمدد النفوذ الإيراني في العراق، وتعايشت معه في سوريا، وتناسقت أحيانًا معه في اليمن، ما دام التمدد هذا لا يمسّ الأمن الإسرائيلي ولا يتجاوز سقف السيطرة الأمريكية على الإقليم.


---

ثانيًا: هل تجاوزت إيران الخطوط الحمراء؟

الإجابة: نعم، وبشكل فادح.

في السنوات الأخيرة، ارتفعت شهية طهران للنفوذ والتدخلات المباشرة، وتوسعت طموحاتها لتشمل تهديدًا فعليًا لإسرائيل من الجبهات المحيطة بها، خاصة بعد حرب غزة الأخيرة، ودعمها الصريح لحزب الله، والجهاد، والحوثيين، وفصائل “المقاومة” في العراق.

ما أقلق واشنطن وتل أبيب ليس فقط هذا التمدد، بل محاولة طهران إعادة تشكيل محور مقاومة مستقل نسبيًا عن الإرادة الأمريكية، وتحقيق اكتفاء ذاتي عسكري وتقني، بما في ذلك الطائرات المسيرة، وصواريخ فرط صوتية، وأبحاث نووية مشبوهة.

أصبحت إيران لا تمثل مجرد أداة فوضى، بل فاعل مهدد للمعادلة الاستراتيجية برمتها، خاصة في لحظة حرجة يعيشها الإقليم بعد استنزاف إسرائيل في غزة، وفشل المفاوضات السياسية في لبنان، واستمرار التفكك السوري والعراقي.


---

ثالثًا: الضربة الإسرائيلية.. تتويج لمسار أم بداية مرحلة؟

ما حصل اليوم لم يأتِ من فراغ. بل سبقه تمهيد دقيق شمل:

ضربات موجعة للميليشيات الإيرانية في سوريا ولبنان، شملت قادة ومخازن أسلحة.

اغتيالات نوعية طالت عقول الحرس الثوري في الداخل الإيراني.

حرب استخباراتية مفتوحة بين الموساد والأمن الإيراني.


ويبدو أن تل أبيب قررت نقل المعركة من "الحواف" إلى "المركز"، معتبرة أن العصب المركزي للنفوذ الإيراني يجب أن يُشلّ، وليس فقط أطرافه المتمثلة في الحشد والحوثي وحزب الله.


---

رابعًا: هل ستتوسع الحملة لتشمل باقي أذرع إيران؟

من المرجّح جدًا أن نرى ضربات تكميلية قادمة، خصوصًا في:

العراق: استهداف كتائب حزب الله، والنجباء، والعصائب، عبر ضربات مباشرة أو عبر وسطاء.

اليمن: احتمال توسيع بنك الأهداف ليشمل مراكز تطوير وتخزين صواريخ الحوثيين.

سوريا ولبنان: استمرار ضربات استنزافية لمراكز القيادة والتسليح.


هذه ليست حملة قصيرة، بل بداية إعادة هندسة المشهد الأمني للمنطقة بما يضمن تحييد القوة الإيرانية، أو على الأقل ضبطها ضمن خطوط حمراء جديدة، أكثر صرامة.


---

خامسًا: سيناريوهات الرد الإيراني المحتملة

هنا يتوقف المستقبل على ما تختاره طهران من بين 3 خيارات:

1. الرد المحدود والمحسوب:

ضرب مصالح إسرائيلية في الخارج.

تنشيط الميليشيات في العراق أو اليمن.

استهداف بحري محدود.

وهذا الأرجح حاليًا، لتفادي انزلاق شامل.

 

2. الرد الكبير المؤدي لحرب إقليمية:

استهداف مباشر داخل إسرائيل.

فتح جبهات متعددة (لبنان، سوريا، غزة، العراق، اليمن).

هذا خيار محفوف بالمخاطر ويؤدي حتمًا إلى تدخل أمريكي وربما مواجهة إقليمية قد تتوسع.

 

3. الامتصاص وإعادة التموضع:

وهو ما فعلته إيران سابقًا في أزمات مشابهة.

إعادة التموضع تحت سقف التفاوض، وتهدئة الجبهات، ولملمة الخسائر.

 

 

---

سادسًا: هل نحن على أعتاب حرب إقليمية كبرى؟

الوضع مرشح لتصعيد متسلسل، لكن دخول المنطقة في حرب إقليمية شاملة أو حتى حرب عالمية ثالثة، ما زال غير مرجّح حاليًا، إلا إذا:

حدثت ضربة إسرائيلية لبرنامج إيران النووي.

أو ردّت إيران برد نووي أو غير تقليدي كبير.

أو تدخلت روسيا أو الصين بدعم صريح لطهران.


في غير ذلك، فالصراع سيبقى ضمن نطاق الحروب المركبة متعددة المسارات: استخباراتية، سيبرانية، استنزافية، بالوكالة.


---

خاتمة: سقوط الأقنعة.. وصعود معادلات جديدة

لم تعد إيران في نظر واشنطن وتل أبيب "العصا الغليظة" المفيدة، بل أصبحت "وحشًا منفلتًا" قد يرتدّ على صاحبه. ومع الضربات التي هزّت طهران اليوم، تدخل المنطقة مرحلة جديدة، عنوانها:

> لا خطوط حمراء بعد اليوم... بل إعادة رسم للخارطة بدماء جديدة وحدود نارية.

 

ويبقى السؤال:
هل تقرأ طهران الرسالة جيدًا؟
أم أنها ستختار أن تكتب ردّها... بالنار؟!