المجلس الانتقالي الجنوبي: من فاعل مناطقي إلى شريك في معادلة الدولة

تحليل خاص _ مانشيت:

شهدت الساحة اليمنية خلال الأسابيع الأخيرة تحركات لافتة للمجلس الانتقالي الجنوبي، تتجاوز في دلالاتها البعد التكتيكي الظرفي إلى ما يمكن اعتباره إعادة تموضع سياسي واستراتيجي يُعيد تعريف دور المجلس داخل المشهد اليمني ككل، لا في نطاقه الجنوبي فحسب. 
وتأتي هذه التحركات في توقيت بالغ الحساسية، تزامنًا مع الذكرى الخامسة والثلاثين للوحدة اليمنية (22 مايو)، وفي ظل مؤشرات متزايدة على اقتراب استحقاقات سياسية مفصلية ترتبط بمسارات التسوية الشاملة، أو الحسم العسكري.

🟢 *تحركات لافتة في الجغرافيا والسياسة*

جاء اللقاء التنسيقي الأول بين الهيئة الوطنية للإعلام التابعة للمجلس الانتقالي وإعلام "حراس الجمهورية" تابع للعميد طارق صالح ليكسر حواجز طالما حكمت علاقة الطرفين بالتوجس والخصومة الضمنية. وقبله بايام تشكيل المنطقة العسكرية الثامنة التي تضم الضالع، إب، وذمار، وهي محافظات تقع خارج النطاق الجغرافي التاريخي لنفوذ المجلس. كما أن ما أعلن عنه اليوم من افتتاح طريق الضالع – صنعاء يحمل بعدًا رمزيًا في كسر العزلة الجغرافية وإعادة وصل الشمال بالجنوب.

هذه التحركات لا يمكن قراءتها إلا في إطار محاولة مدروسة لإعادة تعريف موقع المجلس ضمن خارطة القوى اليمنية، والتحول من فاعل مناطقي يدعو للانفصال إلى شريك محتمل في معادلة الدولة اليمنية القادمة.
الأبعاد والدوافع: ثلاثية التفسير الممكن
1. الضغط الإقليمي وتبدّل أولويات الراعي الإماراتي
من المعروف أن دولة الإمارات تمثل الداعم السياسي والعسكري الأبرز للمجلس الانتقالي. وقد شهدت الفترة الأخيرة تحولاً في نهج أبوظبي الإقليمي باتجاه التهدئة وترتيب ملفات الصراع، وفي مقدمتها الملف اليمني. ضمن هذا السياق، يمكن القول إن التحول في خطاب وسلوك الانتقالي يأتي متناغمًا مع سياسة إماراتية جديدة تسعى إلى دعم الحلول الشاملة لا المشاريع الجزئية، مع الحرص على بقاء حلفائها في المشهد لكن بهوية أكثر مرونة وقابلية للتوافق الوطني.
2. السخط الشعبي وتصاعد الاحتجاجات في الجنوب
شهدت عدن وعدد من مناطق الجنوب موجات احتجاج شعبية متصاعدة، احتجاجًا على سوء الخدمات، والانفلات الأمني، وتردي الأوضاع المعيشية. هذه الضغوط أضعفت من شرعية المجلس داخل بيئته الحاضنة، ودفعت به نحو محاولة امتصاص الغضب من خلال التحول إلى خطاب وطني جامع يُوحي بالمسؤولية والانفتاح، بدلًا من الخطاب المتشدد الذي بات يُنظر إليه كجزء من الأزمة لا كرافعة للحل.
3. النضج السياسي واستيعاب المتغيرات الجيوسياسية
المجلس الانتقالي لم يعد حركة احتجاجية محصورة في مشروع الانفصال، بل بات كيانًا سياسيًا يملك أدوات الحكم والأمن والتحالفات. ومن هنا، يمكن القول إننا نشهد درجة من النضج السياسي داخل بنية المجلس تقوده نحو إدراك استحالة تحقيق أهدافه بالوسائل التقليدية، واستيعابٍ متزايد لتعقيدات المشهد اليمني، خصوصًا مع تغير أولويات الفاعلين الدوليين والإقليميين، واشتراطهم إشراك جميع الأطراف الفاعلة في أي تسوية قادمة.
الأبعاد الاستراتيجية للتحول
إن هذا التحول في سلوك المجلس الانتقالي له أبعاد استراتيجية تتجاوز الداخل الجنوبي إلى مجمل المشهد اليمني، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:

توسيع مجال التأثير السياسي والعسكري للمجلس إلى ما بعد حدوده التقليدية، وهو ما يعني سعيًا لأن يكون طرفًا فاعلًا في بناء الدولة، لا مجرد كيان يبحث عن انفصال.

إعادة التموضع في خريطة التحالفات الوطنية، والاقتراب من قوى كانت تُعد خصومًا سابقًا، كما هو الحال مع طارق صالح، بما يُنذر بإعادة تشكيل توازنات مجلس القيادة الرئاسي ذاته.
كسر الانطباع الخارجي بأن المجلس الانتقالي غير قابل للتفاوض أو الشراكة، واستبداله بصورة فاعل سياسي مرن يمكن إشراكه في هندسة الحل اليمني.
المآلات المحتملة
أولًا: على مستوى المجلس نفسه
إذا ما تكرّس هذا التحول كسياسة مستدامة لا مجرد استجابة ظرفية، فإن المجلس الانتقالي سيكون أقرب إلى التحول من "مشروع انفصال" إلى "مشروع شراكة مشروطة" داخل الدولة اليمنية القادمة. وهذا قد يمكنه من الاحتفاظ بدور مركزي دون الحاجة إلى قطيعة مع الكيان اليمني الكبير.
ثانيًا: على مستوى المشهد الوطني
انخراط الانتقالي في خطاب وطني جامع يُسهم في تعزيز معسكر القوى الجمهورية المناهضة للحوثي، ويساعد في خلق كتلة سياسية موحدة يمكنها فرض شروط أكثر اتزانًا في أي مفاوضات سلام قادمة.
ثالثًا: على مستوى العلاقة مع الجنوب
قد يُنظر إلى هذا التحول بإيجابية من قبل شريحة واسعة من الجنوبيين الذين يفضلون خطاب الدولة على خطاب "الهوية القتالية"، لكنه أيضًا قد يُواجه برفض من بعض التيارات الجنوبية الراديكالية التي تعتبر أي تقارب مع الشمال خيانة للمشروع الجنوبي.
خاتمة
إن المجلس الانتقالي الجنوبي، وفي ضوء المتغيرات الأخيرة، يخوض اختبارًا حقيقيًا لإثبات قدرته على التحول من كيان احتجاجي مناطقي إلى فاعل سياسي وطني رشيد. فهل سينجح في بناء هوية جديدة تُمكنه من الشراكة في الدولة دون التفريط بمطالبه؟ أم أن هذا التحول سيكون مؤقتًا سرعان ما ينهار أمام ضغوط الداخل أو تبدل المواقف الخارجية؟
الأسابيع القادمة ستكون حاسمة في الإجابة على هذا السؤال.