الصلاة في محراب الثعلب
ربما كان في السياسة مس من الشيطان، ربما كانت هي الشيطان نفسه، ربما كانت رجساً من عمل الشيطان، والسياسي هو الشيطان، وربما لمح المراقب تشابهاً بين طريقة أداء السياسي وطريقة سير لاعب السيرك، أو مشية الثعلب إلى “قن الدجاج”.
السياسة تدخل الأشياء الجملية فتفسدها، وتحيد بها عن مقاصدها، وتُجيِّرها للمصلحة. إنها تتخفى تحت القضايا الإنسانية والمبدئية، تلبس مسوح الرهبان تارة، ترتدي أردية الضحايا أخرى، تصرخ كالنائحة المستأجرة في المآتم، تذهب في ثياب المحامين للدفاع عن القضايا العادلة، لا لكي تجعل تلك القضايا العادلة قضايا رابحة، ولكن لكي تربح هي من ورائها!
هل تستطيعون إحصاء عدد الساسة الانتهازيين الذين ركبوا موجة “الربيع العربي”، حيث انتهت الموجة بملايين المشردين على الرصيف، ومليارات الدولارات في حسابات أولئك الذين أجادوا التزلج على الموج؟ يخرج المتظاهرون إلى الشوارع محتجين على تردي الخدمات، وقمع الحريات وتراجع المداخيل، وتعاظم الفساد، فتظل السلطة ترقبهم، ثم يقفز منها ساسة ماكرون، ويلتحق بهم آخرون من المعارضة، ثم تذهب السياسة إلى الشوارع ذاتها وترفع للمتظاهرين لافتاتهم، وتتبنى كل مطالبهم، وتصوغ لهم خطابهم، وتكتب لهم بيانات المساء، إلى أن ينتهي زخم المظاهرات إلى أرصدة الساسة الماكرين، الذين أجادوا التخفي وراء مطالب المتظاهرين. وينتهي الأمر بالمتظاهرين إلى الموت والسجن والضياع والجوع، وبالساسة إلى الكراسي، وهكذا دواليك، لا المتظاهرون يتعلمون، ولا الساسة يشبعون.
حتى “الإرهاب”، دخلته السياسة، وظفته، جيّرت شيكاته لصالحها، لدرجة أن دولاً تمارس “إرهاب الدولة” دخلت على الخط، وتبنَّتْ القضية وأصبحت طائراتها تجوب السماوات، وسفنها تمخر البحار في مطاردة لـ”الإرهابيين” في ظاهر الأمر، وفي مسعى لكسب مواطئ أقدام خارج حدودها الجغرافية.
هل تستطيعون إحصاء عدد الساسة الذين ركبوا موجة الدين والوطن والقومية؟
هل تذكرون أن “النازي” أدولف هتلر أعلن الحرب العالمية الثانية باسم المسيح، وأن “الشيوعي” جوزيف ستالين عندما خاف الهزيمة فيها، طلب من الروس الدفاع عن دينهم، وأن طاغية مثل الحجاج بن يوسف قتل زاهداً كبيراً مثل سعيد بن جبير تقرباً إلى الله، وأن الحاكم بأمر الله الفاطمي كان يقتل ضحاياه، تقرباً إلى الله، ثم يعود ليبكي عليهم، وأن الخميني ثار على الشاه باسم الله، ثم عاد وقتل الآلاف من رفاقه في محاكم ثورية، وباسم الله كذلك. ألا تتصرف الثعالب عندما تنهش بالحيلة فريستها تصرفاً سياسياً بامتياز؟ وقبل سنوات لبس جورج بوش الابن مسوح الرهبان وهو يدمر العراق بالقاذفات الاستراتيجية، في مطاردة تشبه”مطاردة الساحرات” للإرهابيين من “القاعدة” الذين خبأهم صدام حسين في العراق، حسب الرواية الأمريكية، التي أضفى عليها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول ضرباً من الفانتازيا، باختراع قصة المفاعلات العراقية المحمولة على شاحنات متحركة، أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي حينها. وفي كل موعد انتخابي نكون على موعد مع الوجبة نفسها من الصراخ والدعايات والهجمات والهجمات المضادة، والعزف على معاناة الناس، واستغلال أخطاء الحكومة، لا لتصويبها، ولكن لإزاحة من ارتكبوها للحلول محلهم.
ينظر للسياسي على أساس أنه فشل في أن يكون طبيباً او مهندساً أو محامياً أو مدرساً أو باحثاً أكاديمياً، أو أي وظيفة معتبرة، فأصبح سياسياً، أي أنه لجأ للسياسة للتغطية على عجزه في أن يكون صاحب مهنة نبيلة. ولأن السياسة تعد مجمع أصحاب الخيبات، يصاب المجتمع بأكمله بخيبة أمل مزمنة، ولأن السياسة مهنة العاجزين عن الإنتاج، تنتهي الشعوب إلى ملايين من العاطلين عن العمل على أرصفة الشوارع.
وفي الغرب وصلت المجتمعات إلى درجة قريبة من الحصانة ضد خطابات ووعود الساسة، وأصبح من الشائع تشبيه الوعود الانتخابية بوعود الغانيات أو بائعات الهوى.
مرة كنت أطالع تغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تويتر، فأعجبني رد أحد القراء عليها، بالقول إن كلام ترامب مثل كلام فتاة قرأ بياناتها الشخصية على موقع لـ”المواعدة الغرامية”، وقد وصفت نفسها بأوصاف جعلت قلبه يخفق فرحاً لموعد اللقاء، ولما لقيها، وجد كل شيء خلاف ما كتبت، حتى الصورة، كانت صورة مستعارة، وفي ما يبدو أن الساسة يتصرفون على شيء من هذا النحو، في مواسم الانتخابات، ليفاجأ الناخبون بأن صورة الغانية على موقع “المواعدة” غير صورتها في الواقع.
ولأن الجرائد تحمل دائماً أخباراً سياسية، انصرف الكثير عن قراءتها، لمعرفتهم أن الساسة قلما يصدقون، وقد حرم آرثر رامبو لمس الجرائد، وصرخ: “أنتم تحدثونني عن أنباء السياسة، وأنا غير عابئ بها! لم ألمس صحيفةً منذ أكثر من سنتين، كلّ هذه السجالات تبدو لي الآن متعذرةً على الفهَم، أنا كالمسلمين، أعرف أنّ ما يقع يقع، وهذا يكفي”. وكان ونستون تشرشل يقول إن براعة السياسي تكمن في أنه يقول للجمهور إنهم ذاهبون إلى الجحيم، ولكنه يقولها لهم بطريقة تجعلهم يتطلعون بشوق للرحلة إلى هناك. وهذه بالضبط هي طبيعة الدعايات السياسية التي تسوق الجمهور إلى صناديق الانتخابات، رغم أنها هي الطريق الأسهل لسراب الأمنيات.
تعالوا بنا نقترب أكثر من التوصيفات. فلو كان لدى اليمنيين والسوريين والعراقيين والليبيين، على سبيل المثال لا الحصر، قادة يصدقون، لما سقطت تلك البلدان في الحروب والفوضى. يتحدث البعض أن تلك البلدان ليس فيها ساسة جيدون، ولكن الساسة الجيدين هم بالفعل الساسة السيئون، لأن الساسة بالنسبة للسلطة مثل الأخبار للصحافي، حيث الخبر السيئ هو الخبر الجيد، أما أن نبحث عن ساسة جيدين بالمعنى الحقيقي، فهذا يعني أن نذهب للشياطين لتعلم شروط الصلاة الصحيحة، لسبب بسيط، وهو أن السياسة والجودة لا تجتمعان، خاصة في منطقتنا، وإذا ما وجدت مسؤولاً جيداً، فإنه لن يكون سياسياً جيداً على أي حال. قال ونستون تشرشل إنه رأى مرة وهو يسير بين المقابر ضريحاً كتب عليه: هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق، فتعجب كيف يدفن اثنان في قبر واحد: زعيم سياسي، ورجل صادق!
وفي البلدان الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، لا يهم السياسي الماهر أن يصب الجمهور لعناتهم عليه، خمس سنوات كاملة، هي فترة الدورة الانتخابية، ما دام أن اللعنات ستتوقف عشية الانتخابات، ليصب الملايين أصواتهم في الصندوق لصالحه، في صباح اليوم التالي.
أخيراً ليس مطلوباً من الثعلب أن يغير تصرفاته، هو هكذا مخلوق، لكن المطلوب من صاحب المزرعة أن يشدد الحراسة على دواجنه، وإذا كان الثعلب يأتي إلى الدواجن بين الحين والآخر ليفترسها، بحيلة أو بأخرى، فإن العتب على صاحب المزرعة، الذي لم يتعلم بعد أنه مثلما أن عين الثعالب على الدواجن، فإن عين السياسي على كعكة السلطة، التي يلبس لها مسوح الرهبان، ليصرف الجمهور إلى الكنيسة، فيما يتفرغ هو لافتراس الدواجن، وقبل عقود طويلة، قال شوقي:
مخطئ من ظن يوماً
أن للثعلب دينا