أحمد الميسري رجل بحجم الوطن
أحمد بن أحمد الميسري اسم سيكون له مع التاريخ وقفة ، ومع
المآثر قصة ، اسم ستردده الأجيال كثيرًا ؛ كواحد من الساسة العظام ، الذين جادت به
هذه المرحلة المفصلية الصعبة من تاريخ اليمن الحديث ، وكواحد من القادة العمالقة، الذين
لم تثنهم الصَّعاب، ولم تهزهم أعاصير المحن ، فخط هذا الشاب العصامي اسمه على جبين
التاريخ؛ بأحرف لن يمحها الدهر ، أو تضيع في سراديب الزمن .
ستحتفظ الذاكرة السياسية للميسري بمواقفه الشجاعة ، وأدواره
الوطنية الفذة ، وأعماله الجبارة ، وسيسجل التاريخ أنه الوزير الذي لم يخرج من عدن
أثناء الحرب وبعدها ، فآثر الحق رغم وعورة مسلكه ، وفداحة ثمنه ، إيمانًا منه أن المآثر
لاتلد إلا من رحم النوازل ، والأمجاد لاتصنعها سوى الصعاب .
ثلاث مراحل عاصفة مر بها الرجل مثَّلت اختبارًا حقيقًا لشجاعته وصدق مواقفه الوطنية ،
مرحلة الحرب ، ومرحلة مابعد خروج المليشيات
الحوثية من عدن ، ومرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة ، ثلاث مراحل حاسمة ، كان في كل
منها القائد والمرجع والموجه ، وظل صامدًا لم يتزحزح ، فلله در المحن هي وحدها من تفصح
عن معادن الرجال،كنار الكير التي تُميَّز الدينار الذهبي من المغشوش .
فرَّ الكثيرون ممن يشار إليهم اليوم بالبنان؛ وكانوا حينها
نكرات لايعرفهم أحد ، وبقي الميسري وهو الوزير والسياسي والشخصية المعروفة على امتداد
اليمن ،فلم تهزه العواصف ، ولم يستسلم للمغريات .
خرج الحوثيون من عدن ، بعد أن أخرجوا المدينة المسالمة عن
طورها الحضري ، وطابعها المدني الذي ترسخ فيها لأكثر من قرنين من الزمن ، وحوَّلوها
إلى مدينة مدمرة ، ينعق على أطلالها البوم ،
تعبث بها مليشسات الجريمة المنظمة ، تنشر الموت؛ يتخطف الآمنيين من بيوتهم ،
ويترصد هم في أسواقهم، و ينتزعهم من دور العبادة، من بين صفوف المصلين ، حتى يُخيَّل
لمن يقرأ، أو يسمع أخبار مدينة عدن ، إنه يقرأ فصلًا من رواية تتحدث عن وكر من أوكار
الجريمة المنظمة، في أحد أحياء الصفيح في روديو
جانيرو ،أو ضاحية من ضواحي عاصمة المكسيك ،
فكان الميسري الوزير الوحيد الذي يعمل في هذه الظروف ؛ ومعه كل الخيَّرين ،من كل المناطق،
والتيارات السياسية ، لإعادة الحياة لهذه المدينة المسالمة المكلومة .
أدار الميسري كل
الملفات التي تسلمها بعقل رجل الدولة المجرَّب ، وبروح الوطني المنفتح على الجميع ،
وبحنكة المسؤول الذي يقف على مسافة واحدة من الجميع ، ولم يتعصب لحزب سياسي ، أو تكتل
جهوي ، أو لعصبية قبلية ، فلم يتعصب إلا للوطن ، ولم ينتصر إلا للمواطن ، في حين فشل
المناطقيون الذين حوَّلوا حتى المدن التي يقيمون فيها إلى تجمعات لعشائرهم ، وجعلوا من المؤسسات العسكرية والأمنية التي تولوا
قيادته،أو أشرفوا على بنائها مليشيات مناطقية
تابعه لهم .
أدار الميسري ملف إعادة بناء القوات المسلحة والأمن، المتمثل
في إعداد قوائم البيانات للقوات المسلحة والأمن ، والإشرف على صرف مرتبات القوات المسلحة
والأمن ، وكان هذا العمل الأساس الذي أعيد من خلاله بناء أكبر وأهم مؤوسسة حكومية ،
وبعودة المرتبات اندحرت المجاعة التي كانت تهدد السواد الأعظم من الناس .
أدار الميسري مهامة كوزير بكفاءة واقتدار ، متخذًا من العمل
المؤوسي خيارًا وحيدًا ، قائمًا على التمثيل الوطني، فعمل على إعادة بناء وزارة الداخلية
، وتفعيل الكثير من مؤوسساتها ،وأجهزتها الأمنية ، رغم العراقيل التي واجهها ، وشح
الامكانات، والعمل في ظروف بالغة التعقيد والصعوبة ، فقدم نموذجًا وطنيًا ، ووضع أسسًا
قابل للبناء عليه مستقبلًا؛ سوى ظل الميسري على رأس الوزارة أو غادرها ، بخلاف المليشيات
المناطقية التي سترحل بمغادرة قادتها المشهد السياسي ، أو الوظيفة الحكومية .
أدار الميسري كل معاركة السياسية ، بنفس رجل الدولة المنفتح
على خصومه وأنصاره، وكان عرَّاب التقارب بين الحكومة الشرعية ودولة الإمارات كدولة
محورية في تحالف دعم الشرعية ، تقارب مبني على العلاقة الندية،التي تضمن مصالح البلدين
، وتحفظ كرامة الأطراف والقوى والأشخاص المنفذة على الأرض، وبهذا قدَّم الميسري نموذجًا
آخرًا للسياسي اليمني المعتد بأصالة شعبه ، وعظمة تاريخه ، بخلاف النماذج الهزيلة التي
قدمها تجار الشعارات ، الذين ارتضوا بدور العبد التابع لسيده ، فأخطأوا مرتين في حقهم
كأخوة لنا، وحقنا كبلد توشح نياشين التاريخ ، وتيجان الحضارة قبل ثلاثة ألف سنة قبل
الميلاد .